البحثُ عن الهويَّة وسرديات ما بعد الحداثة

ثقافة 2019/06/24
...

غسان حسن محمد
عندما تسعى الكتابة السرديَّة الى تهشيم مركزيَّة المركز والنأي عن السرديات الكبرى، باتجاه الهامش وفواعله كسرديَّة صغرى.. تتعالق بها حيوات المهمشين والمنفيين والأجراء والعبيد والحريم في بلد كسلطنة عمان على مدى تاريخٍ يمتدُّ لأكثر من (90) عاماً..، البلد النامي الذي يرزح تحت نير السلطة الأبوية بتمثيلاتها المتوارثة القارة على الأرض.
ذلك هو الإطار المعرفي لروايات ما بعد الحداثة.. الذي عملت عليه الروائية العمانية جوخة الحارثي في روايتها "سيدات القمر" الحاصلة على جائزة (المان بوكر) العالمية 2019م.. إنها رواية سيريَّة وثائقية اجتماعية تحكي قصة أسرة عمانية تحكمها التابوات الدينية والاجتماعية والاخلاقية في بيئة صحراوية عاش ناسها شظف العيش وأنقذها القدر في العام 1928م باكتشاف واستثمار النفط.. إنها قصة "ميا ابنة عزان" التي أجبرتها السلطة الأبويَّة على الزواج من ولد التاجر سليمان، ولدت "ميا" ابنةً أصرت على تسميتها "لندن" على الرغم من معارضة الأقربين والأبعدين لهذه التسمية، بعدِّها تسمية غريبة تمت استعارتها من عالم الغرب المخالف/ المختلف، وهنا تظهر الغيرية كمفهوم يحمل جينات السلب في العقل العربي ضمن سياقات التاريخ والتقاليد والموروث والبيئة المحلية باشتراطاتها القاسية على المرأة خصوصاً.. كانت فكرة الانعتاق من ربقة التقاليد، صراع الهويات كمعادل موضوعي لثيمة الحرية، تمثل دور البطولة لـ(ميا، سالمة، ظريفة، العنكبوت، شنة، نجيه القمر، خولة، أسماء، الشيخة) سيدات القمر الرواية.. إذ لم تكن هناك شخصية أو شخصيات رئيسة، كل أدلى بدلوه في الرواية بحكايات قصار موجزات.. حكايات العبيد والاقتراب من قوس الحريات.. الحب ومنازلاته الفاشلة.. شخصيات مقهورة مستلبة، أطرها الانكسار وعدم تحقق أمنياتها.. بضع موتيفات كانت ترد على لسان العبيد في رغبتهم بالتحرر، تنتهي إما بموت اصحابها أو بهروبهم الى بلدان أخرى.. الإيمان بالخرافات والسحر والشعوذة.. "لندن" الفتاة التي كَبُرت لتصبح طبيبة والتي كان بالإمكان لو ان هذه الشخصية كُتبت بعناية ودقة وتوسعت مساحة بوحها، لغيرت الكثير من مجريات الرواية.. رواية الحارثي التي دعت فيها تلميحاً لا تصريحاً الى تحرر المرأة وامتلاكها لحقوقها الانسانية كاملة.. "لندن" بعد خطبتها للطبيب أحمد الذي شغفها حباَ، وبعد فترة قصيرة عنفها وبدأ يضغط على حريتها.. هذا ما صدمها ودفعها الى الانفصال عنه.. فكرة تحمل جدتها وفرادتها لو انها كتبت (بحذاقة وتروٍ) كان بامكانها ان تنقذ الرواية من السطحية والتقريرية والمباشرة التي أفسدت فعل الروي في أكثر من موضع على خارطة الرواية، الحكاية لوحدها لا تصنع رواية جيدة، الرواية صنعة القرن العشرين وما تلاه، صنعة تحتاج الى قلم مفكر، متخيل، منضبط في ترسيم أطر وحدود الشخصيات، صانع ماهر يؤسس بحذق لنمو الشخصيات واندثارها، يحيي ويميت، يجيد فن الاقناع، يمتلك الموهبة والفن في آن.
الزمان بصنفيه الكرونولوجي والسايكولوجي، كان حاضراً في الرواية، مع انمياز الزمن السايكولوجي على الاخر، عبر تحدث الشخصيات مع نفسها (الديالوج الداخلي) وهي تقنية تقترب من عوالم السينما في كثير من محاورها.
أما على صعيد المكان فلم يكن هناك توصيف فني جمالي، يدخلنا كقراء الى مكان محدد ويجعلنا ضمن أروقته.. كانت الحارثي تشير الى اسماء الاماكن دون بيان جغرافيتها، وتوطيد علائق الكائن بها.. ولا نرغب كقراء ان تضع الروائيَّة أطلس لتلك الأماكن.. بقدر تعلق الأمر بأنَّ لكل مكان خصوصياته.. ومن مبدأ ان القارئ مشارك فعلي في العمل الروائي.. فعلى سبيل المثال قبل نحو عشرين عاماً حصلت على المجموعة القصصية "تحت سماء الجليد" لمؤلفها "جاك لندن" فقرأتها في شهر تموز القائظ.. وأنا امعن عيني في هذه المجموعة شعرت ببردٍ قارسٍ ألمَّ بي.. هكذا هي الأعمال العظيمة تأسرك من حيث لا تدرك كيف حدث ذلك.
لغة الرواية امتلكت خفتها وهذا ما يحسب للحارثي.. لغة يومية بمفردات واضحة اقتربت من نبض الواحة والمدينة النامية.. لغة موجزة، مكثفة.. براغماتية تؤكد على الفعل مبتعدة عن البلاغات والاستعارات والتوريات من فنون البلاغة.. لغة مباشرة طيعة تنضوي تحت يافطة السهل الممتنع.
هناك تنافذ بين فنون الإبداع ذلك ما أظهرته الحارثي ببناءات مشهدية استثمرت فيها مناخات الأفلام السينمائية وعناصر الدراما في الحوار الرشيق، والانتقالات التي تشبه آلية التقطيع والمونتاج في صناعة الفيلم، وتكريس اللحظة لصالح الفكرة، إلا أنها بناءات تحتاج في ترسيماتها الفنية/ الجمالية الى العمق في صناعة المشهد، ودقة الصورة الدرامية لتحوز قصب السبق في ذاكرة المتلقي.. الجرأة في طرح موضوعة المرأة ومعاناتها في مجتمعاتنا العربية موضوعة مهمة ينبغي أن تأخذ دورها في عالم الكتابة، كما فعلت الروائية الشابة جوخة الحارثي في "سيدات القمر".. نأمل أن تواصل الحارثي إبداعها السردي مستقبلاً..، وتجود علينا بثمار الإبداع مكتملة النضج.