باقر صاحب
كلّ مجدهِ، وهو يقاربُ سنَّ الشيخوخة، إنّهُ كان مصارع ثيران، رسَّخ رياضةً غريبةً على مستوى البلاد.
جوبه بالاستنكارِ والسخرية، لئلاّ تصبحُ تلك الرياضةُ العنيفةُ تقليداً، المستنكرونَ يرونَ أنّها رياضةٌ أجنبية، اشتهرت في أسبانيا، كبلدٍ أوروبي، كلُّ شيءٍ مُستثمرٍ لديهم من أجلِ كسبِ المالِ والمتعةِ وتفريغِ الدوافعِ العنفيةِ بحسبِ علماء النفس.
هي أجنبيةٌ لن تنجحَ في ظروفنا.. كفانا عنفاً.. كما يقول الناس هنا في البلاد، ويستمرّونَ في القول.. ومن ثمَّ تأتي رياضةٌ كهذه، بإمكانها جذبُ النشءِ الجديد، بوصفها تدلُّ على الرجولةِ والشجاعة، ويقول آخرون.. يمكنُ اعتبارُها فرصةَ عملٍ رأسمالُها المغامرةُ والقوةُ البدنيةُ والتنفيسُ عن مشاكلهمِ الاجتماعيةِ والهربِ من التفككِ الأسري، فضلاً عن الانتحارِ بطرقٍ يعتبرونها نبيلةً لأنّها تتمُّ أمامَ ملأٍ من الناس، نبلُها ينبع من أنّها رياضةُ انتقامٍ من كلِّ مسبّبات مشاكلهمِ الاقتصاديةِ والاجتماعيةِ والنفسية .
كان مصارع الثيران رائدهم، جميعُ متفرجي الملعبِ الأولمبي الكبير، يترقّبونَ ماذا سيفعل، في الحلبة، حين دخلَ ثورٌ ضخمُ البنيةِ وذو قرونٍ حادّة. هم يعرفونَ مُسبقاً بحسبِ مشاهداتهم في الفضائياتِ عن مصارعةِ الثيران في إسبانيا، التي يُوجدُ فيها
أكثرُ من 400 حلبة، حيثُ يُقتلُ فيها 300 ألفُ ثورٍ سنوياً، أما في البرتغال فيشارك نحو2500 ثور في 300 نزال في العام.. يعرفونَ أنَّ هناكَ مساعدينَ للمصارعِ الأساسي الراكبِ مترجلينَ، يُسهمونَ في تشتيتِ انتباهِ الثور، فيسدِّد الأولُ سهامهُ واحداً تلو الآخر.
هو افترق عن هؤلاءِ بكونه وحيداً، وافتراقه الآخرُ، في أنَّ الثور الذي يسعى إلى مصارعتهِ لهُ دلالةٌ معينة، يريدُ أن يصرَعها، كي ينتصرَ على ذاته أولاً، يصرعُ الطيبةَ الزائدة، التي تمنح الآخرين فرصاً ذهبيةً لاستغلاله مادياً ومعنوياً، إنّها شريعةُ الغاب، ليس ضعيفاً، ولكنَّ مكنوناتِ قوتهِ الحكيمةِ تغلّفُها الطيبةُ، التي ينوي القضاءَ على ثورها المتضخّم الآن. ولكنَّ ضخامته أكثر مما يتصوّرُ لأنَّهُ شبَّ معه/ هو ظلّه، مُردّداً بتسليمٍ" من شبَّ على شيءٍ، شابَ عليه" ولكنَّهُ ظلّه، هل يجتذبهُ بقماشةٍ زرقاء، بدلاً عن الحمراء، لعلّه بالأولى، يصرعهُ بالركضِ السريعِ والدورانِ حولَ الحلبةِ لساعات، ثم يخرُّ على الأرضِ تَعِباً، مستفيداً من وجودِ حلباتِ مصارعةِ في كاليفورنيا وجنوبِ فرنسا لا تجري فيها إراقةُ دماء، لكنَّ ما حدثَ أنَّ ثورَ طيبته، الذي انفصل عنه وتغوّل عليه، أقعى على أرضِ الحلبةِ من الضّحك، وبدورهِ شبَّ الجمهورُ سخريةً مما حدث، تصوّره وهو يضحكُ يقول"( لعب أطفال)، أنا لا أنازلُ فارساً، خَسرَ كلَّ شيء، حياتهُ كلُّها خسارات، جعلتهُ يبدأُ من تحتَ الصّفر، خَسرَ كلَّ مالهِ، يثقُ بما حولهُ ثقةً عمياء"، ورفعَ قوائمهُ عالياً" أنا المنتصرُ من دونِ نزال"، ومن ثم ردّد كلماتٍ بصوتٍ خفيض، لم يسمعها سواه" ستظل طيباً جداً، وسيستغلك آخرون، حتى أقرب الناس اليك". في أثناء ذلك، صفَّقَ لهُ الجمهورُ ضاحكاً من فارسٍ مخذولٍ من دونِ نزال.
أخرجَ بعضُ الحاضرينَ، من الذينَ لمْ يسخروا من مجرياتِ النزالِ قماشاتٍ حمراً يلوِّحونَ بها، ما أثارَ حفيظةَ الثور، فانطلقَ سريعاً نحو أماكنهم على مدرّجات الملعب، مجتازاً الموانع، فأثارَ رعبَ آخرينَ يتمسخرون، فأصبحَ نزالاً هزليّاً فوضوياً على المدرّجات، لكنهُ حوصرَ في دائرةٍ أغلقها بانتقامٍ رهيبٍ ذوو قماشاتٍ حمرٍ ممن يحملونَ سكاكينَ حادّة، فتناوشتِ الثورَ الهازلَ من جميعِ أجزاءِ جسدهِ حتّى خرَّ صريعاً مدمّى، بينما كان المصارع في الحلبةِ فرحاً باكياً لما جرى، لقد قتلوا طيبته، قتلوها كلّها، لا لأجله، بل لأجلِ أن يصبحَ شرّيراً مخادِعاً مثلَهم، كان يفكّرُ في ذلك، وأمامه في المدرجات قتلةُ الثورِ من أصحاب السكاكين، يتصارعونَ على نيلِ حصصهم من لحمِ الثورِ الضّخم البنيةِ الذي ربّاه لما يزيدُ عن نصفِ قرن، كأنَّهم يريدونَ اجتثاثه، وينهبونه أموالاً ومعنويات.
خرج من الملعب، بعدَ أنْ غادرَ الجميع، وهو أفكّرُ في قصّابي ثورِ طيبته، كانتْ وجوههم لها ملامحُ أعداءٍ وأصدقاء، لا فرق، رآهم في الشوارع والمقاهي يرتدونَ بذلاتٍ حمراً، استعداداً لمواجهته في يومٍ ما، كأنهم ثيرانٌ لاهيةٌ تتجوّلُ بحرّية، كي تطعنَ إخلاصه وكفاءته في العمل، وتستقبحَ كلَّ جميلٍ في سيرته، وتسوّدَ كلَّ ما هو ناصعٌ في سريرته.
استيقظ من نومه فَزِعاً، انتبه إلى رداءِ نومه، عجباً.. قماشةُ الأمامي من الأعلى إلى الأسفل حمراء، والجزء الخلفي قماشةٌ زرقاء، وحينما عاد إلى النوم، بزغتْ له فتاةٌ جميلةٌ تلوّحُ له بمنديلٍ أبيض، فصرخ بها.. لن أستسلم، ولكنّها اختفتْ مع منديلها حين استيقظ ثانيةً، وهو يبتسمُ مع بزوغِ طلائع فجرٍ جديد، لن تشرقَ فيه الشمسُ على حلباتِ مصارعةِ الثيران.