سلام مكي
يقول الراحل فوزي كريم في كتابه "القلب المفكر": حين اطلع عالم الآثار البريطاني جورج سميث عام 1872 على نص ملحمة كلكامش، بعد أن فك أسرار رموزها المسمارية، ورقص عارياً في أحد أقبية المتحف البريطاني، كان احتفاؤه بريادته، وبقراءة أقدم نص شعري عرفته البشرية. ولكنه لم يكن يعرف أن هذا النص ما إن ترجم إلى الإنكليزية حتى أصبح ينبوع إلهام لعدد كبير من الشعراء، ولفيض من الاستجابات.
لعلنا لا نغالي، إن قلنا إن الباحث ناجح المعموري، أكثر من نهل من ذلك الينبوع، فهو، وإن كان يحتفي بكتاباته بالأسطورة والملحمة، كصورة من صور الإبداع الإنساني، لكنه وقف كثيراً عند ملحمة الرافدين الخالدة كما يسميها فراس السواح، كلكامش التي شغلت المعموري منذ أيام رحلته الأولى مع الحضارة العراقية القديمة، فهو أكثر من كتب عن الملحمة، واستطاع كما قلنا في مقالات سابقة، أن يخلق نصاً موازياً لنص الملحمة الأصلي، لكنه اليوم، وعبر كتابه الأخير" اليومي والمتكرر في ملحمة كلكامش"، يؤكد لنا أنه أكثر باحث نهل من ينبوع الملحمة، فهو قد أصدر عام 2014 كتاب "المسكوت عنه في ملحمة كلكامش"، يعود بعد 9 سنوات ليصدر كتاباً ثانياً عن الملحمة، ولكن هذه المرة بعنوان "اليومي والمتكرر في ملحمة كلكامش".
المعموري، وكعادته لا يكتفي بقراءة النص مرة واحدة، فهو يتعمد القراءات المتعددة، ولعله يترك فاصلاً زمنياً بعد قراءة وأخرى، لكي يتمكن من إشراك الزمن في كشف خبايا جديدة، في مسعى منه لكشف المزيد من الأسرار التي يحملها ذلك النص، ولا نص أكثر من نص الملحمة، ليكون نصاً يستوعب أكثر من قراءة، فهو كما يقول المعموري نفسه، يتمتع بحيوية هائلة، ويمتلك طاقة لا مثيل لها، في التصدي للزمن، والكشف عن المزيد من أسراره وخفاياه التي لا تقف عند حد معين، ولا تكتفي بقراءة واحدة. فأي قارئ حين يقرأ كتاب المسكوت عنه، سيقول في قرارة نفسه: لقد استنفد المعموري ما لديه في هذا الكتاب، فهو قد كتب عن المسكوت عنه، أي بمعنى أن المكشوف قد تمت الكتابة عنه، والآن جاء الدور إلى المسكوت عنه، لكن المعموري، كان له رأي آخر، فهو لم يكتف بالمسكوت عنه، بل حاول نحت نص الملحمة، والتنقيب بين أطلاله، كونه يدرك ما لنص الملحمة من طاقة كبيرة على الاستمرار بالجريان مهما اغترف منها.
في هذا الكتاب، نجد أنه يشتغل على ثيمة جديدة، تناول فيها بعداً جديداً في الملحمة، يتمثل بتناول طبيعة العلاقات الثنائية بين أبطال الملحمة، فرغم أن الطاغي عليها، هو البطل الأوحد "كلكامش" الحائز على صفات الألوهية إلى جانب البشرية، إذ إن مستهل الملحمة يبدأ بذكر عظمته وقوته: "هو الذي رأى كل شيء/ فغني بذكره يا بلادي".
هذا المستهل، يلزم الباحث بالانصياع إلى الحضور والهيمنة الكبيرة لكلكامش في الملحمة، لكن المعموري، استطاع رسم خط جديد، غير مألوف، وهو تناوله للعلاقات الثنائية، التي تشكلت بعد ظهور أنكيدو، سواء العلاقة بين أنكيدو وكلكامش، أو بين كلكامش وباقي الشخصيات. يقول المعموري: لم تلغ العلاقة الثنائية بين الصديقين منذ بدايتهما، إحساس كلكامش بالأنا، بل جعلته يتعامل معها بطريقة أفضل وأقوى ومنحته شيئاً من المجازفة، لأنه حقق بعد دخول أنكيدو ما كان عاجزاً عنه، أي أن الأنا تعاظمت واطمأنت بوجود الآخر.
وهنا تكمن مفارقة، إذ إن المعموري يرى أن أنا كلكامش تعاظمت واتسعت، بعد مجيء أنكيدو، الذي أسهم بمنح صديقه ميزات لم تكن موجودة فيه سابقاً، فهنا نجد أن فاعلاً جديداً، استطاع أن يكون جزءاً من منظومة البطل المهيمنة، وإن كان يدور في فلكها، لكن اللافت أن خلق أنكيدو، كان لأجل الوقوف بوجه كلكامش، فلولا كلكامش، لما خلق أنكيدو أصلا، لعدم الحاجة إليه.
ويضيف المعموري: أنكيدو هو الذي منح كلكامش فرصاً جديدة في أوروك كملك لها، وزوده بطاقات أخرى وأشار لها في النص ودفع به نحو محطة مغايرة للتي كان فيها.
فهنا نجد أن ثمة علاقات داخلية بين البطلين، تجد استجلاءها من خلال القراءات المكثفة للنص الملحمي، وتلك العلاقات كانت مغايرة تماماً للعلاقات السابقة لكلكامش، إذ كانت علاقاته مع أبناء أوروك، قلقة، يسودها الخوف والهيمنة والجبروت: "لم يترك كلكامش ابناً لأبيه/ ولم تنقطع مظالمه عن الناس ليل نهار.. لم يترك كلكامش عذراء لحبيبها، ولا ابنة المقاتل ولا خطيبة البطل".
هكذا كانت العلاقات السائدة بين كلكامش ورعيته، لكن بعد مجيء أنكيدو، شهدت حياة كلكامش تحولات كثيرة، أهمها ما يتعلق بعلاقاته التي تحولت إلى الجانب الودي مع سكان أوروك، أما الطاقة الكامنة لديه، فتحولت إلى الخارج، حيث انشغل هو وصديقه الجديد بالعدو الخارجي.
المعموري، سلّط الضوء على طبيعة العلاقة القائمة بين كلكامش في مرحلة ما بعد أنكيدو، وكيف أنه تحول إلى كائن آخر، يختلف تماماً عن كلكامش ما قبل أنكيدو: "يا أور شنابي: كيف لا تذبل وجنتاي ويمتقع وجهي؟ ويغمر الأسى قلبي وتتبدل هيئتي/ وكيف لا يصير وجهي أشعثا كمن أنهكه السفر الطويل؟ ولم لفح وجهي الحر والقر؟ ولم أهيم على وجهي في الصحاري وإن خلي وأخي الصغير/ الذي طارد حمار الوحش في البرية واصطاد النمور في الصحاري".
ولم ينس المعموري كذلك، التأكيد على البعد الأهم في الملحمة، وهي الدور المحوري للأنثى/ التي لعبت دوراً مهماً في الدعم المعنوي والتوجيه، كصاحبة الحانة التي نصحت كلكامش وذكّرته بنصيبه من الحياة مقابل نصيب الآلهة وما استأثرت به لنفسها. وعندما يقول المعموري في بداية كتابه: تظل قراءة ملحمة كلكامش مولدة لقراءات لا تتوقف. فهنا نود السؤال: هل ستتوقف قراءته للملحمة عند هذا الكتاب؟ أم إنه سيسعى إلى استجلاء معانٍ جديدة، والكشف عن خبايا غير معلنة جديدة؟. ربما يسعنا القول أن ناجح المعموري، آخر ما تبقى من كلكامش، وآخر فارس ما زال يعتلي صهوة الملحمة، ببعدها الأسطوري والواقعي
والديني.