وجوهٌ على هيأة صرخات

ثقافة 2024/10/23
...


أحمد عبد الحسين


المعرض الأخير للفنانة هناء مال الله “وهو مشترك مع فنانين بريطانيين هما بيتر كينارد وكات فيليبس”، أقيم في غاليري “آرتزوتك” بالعاصمة الأردنيَّة عمّان، وحمل عنوان “رمل وزجاج”.

لا تكفّ الفنانة مال الله عن عملها الأثير إلى قلبها: ملامسة الواقعة بحساسيَّة فنيَّة تخصّها هي وحدها، حتى ليبدو كلّ شيء في العمل مصمماً ليكونَ شخصياً، ابتداءً من توقيع اسمها بطريقة غريبة. فهي لا توقّع العمل بكتابة اسمها بالعربيَّة ولا بالانكليزيَّة، بل بالأرقام تبعاً لحساب الجُمل الكبير. وفي هذا الحساب يكون لكل حرفٍ رقمٌ يخصّه فالألف واحد والباء اثنان وهكذا. ولذا فإنَّ اسمها يصبح هو كما مثبتٌ على لوحاتها هكذا:

5.50.1.1.40.1.30.1.30.30.5



هذا النزوع إلى الفردانيَّة ذو منشأ قريب للغاية من التصوّف، ربما كان مردوداً إلى تلمذتها المثمرة على يدي الفنان شاكر حسن آل سعيد. لكنّه التصوّف الممتزج بالمادة امتزاجاً لا انفكاك له، وقد يصحّ أنْ يقال إنَّه تصوّفٌ ماديٌّ ما دام الأمر لا يتعلّق بالغيب وشؤونه، بل بالانخطاف أمام موضوع العمل “والموضوع هنا يتعلق بواقعة الإبادة الجماعيَّة في غزة والجوع الذي يُفرض على الأطفال هناك”، كما الانخطاف أمام مادة العمل التي اعتادتْ أنْ تلتقطها من موادّ جاهزة مبذولة بكثرة “استخدمت في أعمال سابقة لها القناني الفارغة وقطع القماش المحروق وكِسَر الخشب”.

تذهب مال الله إلى مغزاها مباشرة من دون تكلّف. وفي مقالة سابقة كتبنا عن عملٍ لها “إكليل الشوك” الذي جسّد دراما الفداء من خلال رمز ـ أيقونة مسيحيَّة تامَّة الوضوح والدلالة. وفي أعمالها هذه أيضاً نرى أنها لا تهدر وضوح الدلالة كما لا تفارق ولعها بالاشتغال على الموادّ الجاهزة.

جوع أطفال غزة هو العنوان الذي ينتظم هذه الأعمال. وعلى إحداها كتبتْ هذه الجملة “حرب تجويع”. لكنْ بالرغم من الطاقة الشعاريَّة في هذه الجملة بل في أصل الفكرة كلها، إلا أنَّ الأعمال اشتملتْ على رمزيَّة مركّبة: فهي أطباق أكلٍ بلاستيكيَّة جاهزة، من ذلك النوع الذي يستعمل مرة واحدة، مرسوم عليها وجوه أطفال غزاويين بمادة هي أقرب ما تكون إلى الرماد “أو السخام” الذي يذكّر ببقايا البيوت والأجساد المحترقة التي تطالعنا على شاشات الأخبار.

الأطفال الذين رسمتهم مال الله ليسوا أمواتاً لكنهم لا يبدون أحياءً تماماً كذلك، مقتولون بالجوع لكنهم مرسومون على صحون الطعام كما لو أنهم معدّون لأنْ يؤكلوا. غير أنّ تتابع وجوه الصغار المرسومة بالرماد على الصحون يخلق إيحاءً بأنّ كلاً منها وحدةٌ صغرى تشكل بمجموعها عملاً واحداً، الأمر الذي يعيد إلى أذهاننا أعمالاً للفنانة في تجاربها السابقة حيث كانت لوحتها تتضمن موتيفات صغرى “أشكالاً هندسيَّة غالباً كالمثلثات والمربعات” ملصقة بالتتابع وفق ترسيمة تذكرنا بنظام الأوفاق أو الطلاسم. لكننا هنا في “أطفال غزة” نرى هذه الوحدات الصغرى متناثرة كما لو أنَّ مهمَّة جمعها في عملٍ واحدٍ أمرٌ متروكٌ للمشاهد.

عمدت الفنانة إلى وضع دائرة زجاجيَّة مضببة على كل عملٍ؛ بغية تشويش رؤية الوجه المرسوم، في إحالة إلى ما تضعه القنوات الفضائيَّة من دوائر شبه شفافة لتمويه وجوه الضحايا. لكنّ هذه العلامة المموهة لا تحجب الوجه إلا بقدر ما تكشفه ولا تتستر على الحدث إلا بقدر ما تفضحه، فحين تكون بإزاء الوجه قد يبدو لك وجه ضحيَّة تقليدياً كما تراه في وسائل الإعلام، لكنك إذا سرتَ خطوتين سترى بشكلٍ واضحٍ وجهَ الطفل، الوجه الحقيقيّ للمأساة.

ثمة في الفن التشكيلي العراقي سلسلة أعمال سمتُها الأساس هي الرفض، رفض ذو علاقة بموقفٍ سياسيّ أو إنسانيّ غاية في الوضوح والمباشرة. نتذكر ضياء العزاوي “تل الزعتر” ومحمد مهر الدين في عديدٍ من أعماله. هذا الرفض وخلق اشتباك مع الواقعة يستدعيان انتقالة ضروريَّة من التجريد إلى التشخيص ومن العلامة المرمزة إلى الأيقونيَّة التي تلامسُ الإشهار الصريح أو الشعار. لكنّ هذا التشخيص عند مال الله في وجوهها الغزاويَّة مؤدى بمنتهى الإيجاز، فالوجوه مرسومة بلطخات من السخام الناتج عن الحرق “المتتبع لعمل الفنانة يعرف أنّ فعل الحرق كان مرافقاً لكثيرٍ من أعمالها”. بحيث يمكن القول إنَّ التراجيديا الحقيقيَّة التي تطالعنا ليست في تعابير الوجه بل في هذه البراءة المؤداة بأقلّ تكلفة، وهي براءة تزيدُ من منسوب تعاطفنا مع الضحيَّة وإدانتنا للقتلة.


أخيراً..

في بعض الأعمال لطخات باللون الأحمر، فضلاً عن اشتمال المعرض على منصوباتٍ زجاجيَّة حمراء لها شكل الدمعة أو قطرة الدم الكبيرة. وقد كتبت الفنانة في صفحتها الشخصيَّة على فيسبوك تشرح تركيبة المادة المستخدمة وطريقة صناعة هذه المنصوبات:

(حصلت من فيلم متداول على منصات التواصل، على معلومة مفادها أنَّه خلال حرب غزة عام 2005 هربت رمالُ شواطئ غزة، وبطرقٍ غير قانونيَّة، الى اسرائيل، كون هذه الرمال غنيَّة بمادة نادرة من زجاج الكوارتوز (والمتداول بتسميته كنز رمال غزة)، إنَّ تحول هذه الرمال الى بضاعة حرب (غنائم) وكأنَّه يربط الصورة الذهنيَّة لهذه الرمال بدماء الحرب؛ فأدى البحث في هذه الحادثة، ما قادني هذا لإنجاز عملٍ نصبي مادته الخام زجاج أحمر، وقد انجز العمل في الضفة الغربيَّة لفلسطين. هذا العمل مؤلفٌ من عدة قطع زجاجيَّة بعضها منفوخ على هيئة قطرات كبيرة وبها تحاكي القطرات التي تتناثر على بورتريهات الأطفال. وهناك أجزاءٌ من القطع مسطحة وتستقر على الأرض وكأنَّها بركة صغيرة حمراء).