المواطنة من منظور راديكالي

آراء 2024/10/23
...

 أ.د عامر حسن فياض

اذا فتشنا عن معنى المواطنة من منظور ينبغي أن نعتمده ونقبله علينا أن نذهب إلى ما انطلق منه الفيلسوف والمفكر الفرنسي (أميل شارتييه) والمعروف باسم (ألن 1868 - 1951 م) وهو منطلق غير مألوف عن الدولة والسلطة والمواطنة، يتضمنه كتابه الذي يحمل عنوان (عناصر مذهب راديكالي) المنشور عام 1925م، والذي كان بمثابة تأمل عميق حول جان جاك روسو وموقفه من السلطة. 


والفكرة الأساسية عند (ألن) في هذا الكتاب هي التعارض الدائم الذي لا يمكن تحاشيه بين المواطن والسلطة، وأن تفكير كل سلطة ونزوعها باستمرار إلى الحفاظ على نفسها وتوطيد أسسها وتوسيع منافعها هو مصدر الشرور الانسانية، وأن السلطة تفسد بالضرورة كل من يمارسها لأنها تميل دوماً إلى الطغيان، كما تميل "الكواكب إلى الشمس" على حد قول (ألن) الذي يضيف أن كل سيد يميل لأن يصبح طاغية وليس هناك طاغية جيد.

إن نقطة الانطلاق في توجه (ألن) الراديكالي هي تأمله كمفكر وفيلسوف في طبيعة السلطة بطريقة تمتزج فيها قراءاته لأفلاطون وروسو وكوندرسيه وأوغست كونت وستندال، ليخلص من كل ذلك إلى رفض كل مظهر من مظاهر السلطة، فهو ضد الحكام وضد القصور وضد الأكاديميات وبشكل خاص ضد الإدارة وضد العسكرتارية وضد الحروب وضد هيمنة الكنيسة. وإن عدم ثقة (ألن) بالسلطة يعد أمرا حاكما على فكره ومسيطرا عليه. فهو يؤكد أن السلطة تُفسد كل من يشتركون فيها، وكل سلطة بدون مراقبة تجعل الإنسان مقيداً. وهكذا فإن كل سلطة متجسدة في الناس سيئة لأنها تميل في جوهرها، إلى أن تدوم دوام أبدي، كما أن كل سلطة عنده هي مطلقة وعسكرية مثلما أنها وقحة عندما يتم تركها تعمل دون مراقبة، ولا تصبح عاقلة إلا بعد أن تدرك أنها موضع مراقبة.

ويمكن أن نتلمس هذا الموقف من السلطة أيضا في كتب (ألن) العديدة الأخرى، لاسيما (المواطن ضد السلطات) و(احاديث سياسية).. الخ. وهو يعتمد بطريقته الخاصة ديالكتيك (السيد والعبد) الذي قال به (هيجل)، حيث يبين أن كل سلطة تميل نحو الطغيان في محاولة منها لاكتساب الشرعية، وجعل نفسها موضع إقرار المواطنين وقبولهم. وبهذا المعنى لن يكون الأكثر خطورة هو الطاغية فقط الذي يستعمل كل من يبرر سلطته عن طريق الاختصاص أيضا. ومن هنا انعدمت ثقة (ألن) بـــ (المهمين) و(الاختصاصيين) و(المديرين)، لان التكنيك (التقنية) يبقى في رأيه من قبيل الوسائل، وينبغي إلا ينظر أبداً إلى فاعليته بوصفه غاية.

ويجد (ألن) في الفكر والعقل ضماناً وحصنا للحرية في مواجهة السلطة والطغيان، حيث لا يوجد فكر إلا في الإنسان الحر، والعقل التغبيري، ولا يوجد شيء عداه يمكن أن يكون كذلك. ولكن (ألن) لم يرغب في أن يرفض المواطن كل مقتضيات السلطة بحكم بعض جوانبها ومؤسساتها، فمن دون نظام وشرطة تصبح حتى حياة العقل غير ممكنة، والدولة بإدارتها وجيشها ضرورية في نهاية المطاف، لكنها في ممارستها العملية تقتضي الضبط، والصيغة التي يجب أن يتبناها المواطن الراغب في التسليم بالضرورة لافي التسليم بعبادتها، هي عدم الموافقة على الاستسلام الذي تفرضه السلطة، وبذلك فان المواطن التغبيري الراديكالي هو العاقل الذي لا يرفض فقط نشوء القوة، وإنما يعارض أيضا (تجار النُعاس) بممارسته الطبيعية لحرية الإرادة، وبإرادة في المقاومة الذهنية.

ولعل مما يجب أن يكون موضع رفض من قبل المواطن، هو طاعة العقل والاستسلام للعبودية، فمن أجل أن يكون الإنسان مواطنا حقيقيا، ينبغي عليه أن يتعلم الطاعة والرفض في الوقت نفسه، لأن الطاعة تضمن النظام، والرفض يضمن الحرية. وهذا على وجه الدقة مفهوم المواطنة. والمقاومة هنا هي الواجب الأكثر قدسية بين واجبات المواطنة طالما أن السياسة الراديكالية هي الشرط الأساسي للشكل المتفوق منها، لأن الراديكالي عند (ألن) يحب الحق والمساواة، وأن راديكاليته كامنة فيه وليس في الإعلانات، التي يوقعها ويعلنها، ويكمن الفعل الأساس في السياسة في مثل هذه الحالة عنده، في مراقبة السلطة. 

بعد كل ذلك أين تكمن الديمقراطية إن لم تكمن في مثل هذه السلطة الثالثة التي لم يحددها علم السياسة بعد ويدعوها (ألن) بــــ (المراقب)، أنها ليست شيئاً آخر غير السلطة القادرة بشكل مستمر على عزل الحاكم وغيره من المختصين بممارسة السلطة في الأحوال التي لا يديرون فيها الأمور طبقا لمصلحة العدد الأكبر، لتتجسد السلطة في الرقابة الدائمة للناخبين على النواب الذين ينتخبونهم، والنواب المنتخبون من الشعب على الوزراء، والوزراء على إداراتهم. 

ولما كانت اهتمامات (ألن) هذه لم تركز كثيراً على الاقتصاد وقضاياه، موجهة اهتمامها الأساس إلى القضايا السياسية، فإن ذلك يعود، في جانب مهم منه، إلى طبيعة القرن العشرين، قرن الإحباط والطغيان والدول ذات الأنظمة الراديكالية الشمولية، القرن الذي خاض فيه تجربة الحرب العالمية الأولى والثانية. ولكن بقدر تعلق الأمر بالميدان الاقتصادي فان راديكالية (ألن) تبدو محافظة تماما، لأنه يقول بعلاج البؤس باعتماد الطرق نفسها في الإنتاج والتوزيع الأفضل، وتمجيده الملكية الفردية، وعدم ثقته بالصناعة الكبيرة، وتمسكة بنوع من الفردية والملكية الفردية لا يتناسبان مع تطور الاقتصاد الحديث. 

وبصورة عامة يمكن القول مع (جان توشارد وجماعته) في كتابه تاريخ الأفكار السياسية، أن سياسة واقتصاد (ألن) يشكلان كلاً متجانساً، ويعبران بشكل مخلص عن المثل الأعلى للبرجوازية الصغيرة الريفية في زمن المعارك التي كانت تخاض لصالح الجمهورية الفرنسية وضد المخاطر الدينية والمقاومة ضد الألمان والعلاقة التي فرضتها بين الأحزاب وانعكس كل ذلك على اتجاهات الراديكاليين السياسية والاجتماعية، وأكسبها وضوحاً أكثر لتبدو بواقعها الليبرالي الخالص.