الفنُّ.. فلسفة الحريّة

ثقافة 2024/10/24
...

 د. رشيد هارون


لا تنأى الحريّة عن كونها ابتعادا دائما عن مركز التفكير والأماكن والأشياء ودوائرها الضيقة، فضلاً عن أنها توسيع لمديات الطموح، وفكّ الاشتباك مع القيد، وكسر له، الحريّة اضافة نوعية لشرفية الأهداف وطريقة تحقيقها بوصفهما مطلبان لكل من الفنان التشكيلي والفيلسوف، وإذا ما عدنا إلى نقاط الابتداء في مسيرها سنجد أن التحرر من الجوع ضرب من الثورة الفكرية لجأ إليها النحات الأول، فلا فسحة حتى للعاطفة، آنذاك، إذا ما نازعت الإنسان على البقاء، فثمة أولويات للأهداف لا يمكن تجاوزها في ظروف بعينها من رحلته المحاطة بالتهديد المتواتر، ولا شكّ بأن لكل من الفن التشكيلي والفلسفة وسائلهما التي يحققان بها أهدافهما الملحة، في الفن التشكيلي مثلاً اختير النحت وسيلة للصيد، وهدفاً لديمومة الحياة كابتداء قلّت عنده الاختيارات. لكنّ هذا الابتداء يعبّر بدرجة وأخرى عن اختيار حر طالما يحقق هدفاً شرفيّاً سامياً، هذا الاختيار الابتداء كان يمثل خطوة في طريق الفن التشكيلي، ووسائل اختياراته المرتبطة بالحرية شيئاً فشيئاً، وسيجد المتتبع لهذا الفن أن واحدة من مهامه المستقبلية تتجلّى في الطرق على الجماد لتغيير شكله وفحواه ووظيفته مما هو ضروري إلى ما هو كمالي وجمالي وفكري، وسليحظ قدرته على التحريض والتغيير والتأثير في ما بعد، وما انتخاب نصب الحرية على نحو من التحديد مكاناً للتظاهر والاحتجاج مثلاً إلا علامة على ذلك التأثير، وقراءة لرسائله التحريضية المعلنة والمبيّتة على حدّ من السواء، بوصفه رسالة بصريّة لكتل وأحجام لها لغتُها المرمّزة التي تتحدّث مع النخبة التي من المفترض هي الأكثر توقاً للحريّة، والأكثر استجابة للرسائل التي تستنهضها وتمرّن العقل على أن تكون مطلبه الأول مع التطوّر، والتمدّن، وتمكّن الإنسان من غير خيار وحل لتكون الحريّة مطلباً ضروريّاً يرتقي إلى ضرورة البقاء، والحياة نفسها بسبب من تغيّر مواقع ما كان ضروريّاً وتقدّم سواه، فتقدّمت الأهداف، ورقّت الوسائل، وهكذا في تبدّل دائم مع فسحة الخيارات وضيقها على مدى صراع البشر مع المهم والأهم.
 وعلى الرغم مما تقدّم في علاقة الفن التشكيلي بالحريّة، إلا أن للفلسفة دوراً أعظم بسبب من طرائق الخطاب المختلفة بينهما، وقدرة الإنسان على الاستجابة لدعاة الحريّة من الفلاسفة، وقوة بلاغتهم للوصول إلى الغايات التي يرومون، وقدرتهم على فهم النفس وما يمكن أن يؤثّر بها من خطاب، فاللغة وسيلة لدى الفلاسفة، والعقل لديهم وسيلة وهدف في آن معاً، الفن التشكيلي قد اختار النحت وسيلة للصيد، وهدفاً لديمومة الحياة كابتداء واختيار يشير إلى الحرية بحدود ما، فإن الفلاسفة يبدو أنهم اختاروا الطّرقَ على العقول المُستعبَدة الساكنة لتغيير مواقفها السلبية "من نفسها" ومن الآخر.
لا شك بأن علاقة الفلسفة بالحريّة على صعيد تشرّب الانسان لمفهومها اليوم أشدّ وأقوى من علاقة الفن التشكيلي بالحرية، ذلك أن الحرية هي الأخرى كما الفلسفة بها حاجة إلى ثراء مادي وفكري، وهذان المطلبان شرفيان علويّان يحققهما ابتداء الفلسفة ولا يحققهما ابتداء الفن التشكيلي بالنظر لاختلاف أهداف كل منهما في مبتدأيهما، على أن ذلك لا يمنعنا من القول بأن أهداف كل من الحقلين
موضع البحث أخذت تقترب، والمستهدفات صارت إلى اتساع وعمق على نحو غاية في الوضوح، فأخذت دائرة الحريّة تتسع لتتجاوز المنطقة والبلد إلى العالم لتلتحم بالصراعات الفكريّة والثقافية والاقتصادية التي يشهدها عالم اليوم، إنه صراع نخب الأفكار، ونخب الحاجات الجديدة، ونخب الغايات التي تعاملت مع ما هو ضرورة وحاجة بوصفه مطلباً شرفيّاً ملحّاً لا يمكن تغافله في خضم الثورة المعلوماتية والالكترونية المعاصرة، التي تحاول أن تفرّط بشرفية توصلاتها الهائلة حين تسخّر لانتهاك حريّة الإنسان. وبهذا يحاول الفنانون والفلاسفة إعادة طرائق التفكير إلى وجهاتها الإنسانية الحقة، وهي مهمة عصيبة لأنهم يواجهون عقلاً ماكراً يمتلك العلويّة في التفكير أحياناً، ولا يمتلك الشرفية في الغايات والأهداف النهائية كما هو شأن الفنان
والفيلسوف.