رنا صباح خليل
بعد أن اطلعت على الأعمال القصصية الكاملة التي صدرت في مجلد واحد عن دار الشؤون الثقافية العامة للقاص فهد الأسدي، اخترت الكتابة عن مجموعة "معمرة عِلي" التي اصدرها الراحل عام 1995، وفي الحقيقة عند انتهائي من القراءة وجدت من المهم تناول هذا المنجز القصصي نقديا لأنني أرى أن هذه المجموعة تكاد تكون الأكثر تعبيرا عن إمكانات القاص الفنية والأشد إفصاحاً عن موهبته الإبداعية، وفيها تتمثل تلك التحولات في بنية القص بداية التسعينيات من ناحية ميلها إلى تفتيت الحكاية أو تلخيص أحداثها عبر منتجة قاسية تقطع حركة السرد، وتخلخل سياقاته، فتصبح الأحداث ووجهات النظر متداخلة، ما يضفي غموضا على الحدث وعلى مكونات القصة الأخرى كالشخوص والأمكنة وحركة الزمن، وبنية السارد وهذه البنية هي من أهم الإشكاليات في نزعة التجديد عبر مسيرة القصة القصيرة في العراق وانحرافاتها الكثيرة.
يجعل الأسدي من شخوصه أيقونات لصور مجتمعه المسكون بالتنوع والاختلاف، والمكتنز بوافر من القناعات الراكزة في وعي الشخصيات، تأتي سردياته وهي تمثل حالة نقدية استفهامية تهكمية للواقع المثخن بالتناقضات، ومع أن هذه الشخصيات حين تنخرط في المتن الحكائي لا تتأطر بمحددات العرف، ولا تظهر تناغماً وتعالقاً وجدانياً من هيمنة وسطوة تلك الأعراف والقيود المجتمعية الا أن السرد لديه قادر على أن يظهر الشخصية للقارئ، وهي تعاني محنتها الفردانية في مواجهة التشظي المحتدم في الخارج، والانشطار النفسي في الداخل، كان ذلك عبر الغور في تفاصيل شخصية تقتحم معهدا للمكفوفين وتعيش حالة العمى معهم في قصة "الشبيه" أو عن طريق مجنون في مستشفى الامراض العقلية يمرر القاص من خلاله تصورا عن عالم متناقض ما بين لوحات فنية مبهرة وثقافة كتابية متمكنة لكنها مطمورة في مستشفى للأمراض العقلية في اشتغال دقيق يضمر ادانة للحرب التي أدت بالشخصية لهذا المصير في قصة "النشور" فهي تصنف ضمن القصص الاجتماعية -الواقعية، التي تعالج إشكالية الرفض والانتماء إلى الواقع الاجتماعي. وفي هذه القصة استثمر القاص الطرفة المعروفة لدى العراقيين عن ذلك المجنون الذي نصح عاقلا بأن يفتح صامولة من كل إطار في اطارات سيارته كي ينقذ الاطار الذي انفجر لديه وهو في مكان تندر فيه المساعدة والصورة التشبيهية. هنا تتشكل بوعي فني مهمته تشكيل ذاكرة من الواقع فتتضح إمكانية القاص في تطويع اللقطة الواقعية وتحويلها إلى نص إبداعي متكامل من خلال السمات الفنية التي تتوزع مساحة النص لترتقي به إلى مستوى جمالي يزاوج بين واقعية الطرح وثراء المعالجة الفنية. أي أن القاص لديه بحث دائم ومقلق عن جوهر الانسان الغائب والحاضر في الوقت نفسه وهذا المدخل الفسيح والغني بالإيماءات والرموز والشكوى يتداخل، يتسع، يتحدد بالأحلام، الانعكاسات الداخلية، يتحول إلى فضاء دال مشيد بالمعنى معمارياً، ثمة مداخلة بين فضاء الروح والخارج، مداخلة شبه سرية غير أنها واضحة تتأكد في احدى قصصه حين يقوم شخصا ما بقطع مسافة ليست قصيرة في الصحراء مرة كل شهر من أجل سقاية غصن نبت هناك في قصة "الغصن".
تمتلك القصص أصواتا ذات رنين مسموع، وعميق، جدّي وثقيل وغريب. أجواء غريبة وسطور مشحونة. أصوات تترك اهتزازات ودوائر، قدّم لنا من خلالها، مدينة غريبة، تلهث بالحر، وتغرق في العرق، وتضج بالملح. وهي مهووسة بتكاثر النسل لينتج عنها آباء هاربون وأبناء يحصدون خيبات الأمل في مناقشة فلسفية لمتوالية الآباء والأبناء تغزوها سطوة "كارزمية" كبيرة للشخصية وذلك يتجسد في قصة "معمرة عِلي" التي تجتمع فيها متوالياتها السردية في مصب واحد ليتشكل المكان محور جذب فيه. ويتمثل إشكالية وجودية قائمة تتشكل في مواضع يكون فيها المكان عنصرا لوحدات زمنية مرة، وأخرى يكون مركز البناء والنشاط الذي تمثله الشخوص. وفي مواضع أخرى يكون بعدا نفسيا، فيكون ذا طابع فاعل يولد ذاكرة اجتماعية، صيغت بمناحي رؤيا وعي فاعلة، أما ظاهراتية المكان فقد أكسبت الفعل جدلية مادية بما يشكله الحدث القصصي من وجود مغاير يمتلئ حرارة وتدفقا، بينما أخذ تنوع إيقاعاته طابعا متعدد الإحالات مثلته الخنازير بغزوها للمزارع وتخريبها، وذلك قد يوسع دلاليا من حسية المكان داخل النص، وجعله أكثر واقعية من المكان الحقيقي، وجعله يصمد إزاء مؤثرات الأفكار ونوازع الشعور، أكدت كيانية المكان بتشكلها مقدرة القاص وقصديته التي أنتجها التخطيط لمكان القصة قبل أن يكون عنونة، بل جعلت قصدية الفعل الذاكرتي منتجة لفعل المعنى الماكن فيه.
القاص لا يلتقط أحداثاً صغيرة في قصصه، هو ينتقي القضايا المهمة والكبيرة ومن ذلك استثمار موت الشهيد، الذي كان يدافع عن جنوب لبنان ومحاولة عائلته الاستفادة ماديا من مقتله في قصة "الورثة"، فعلى الرغم من قساوة القصة إلا أنه كان ينقلها لنا بصدق فني وبصيرة نافذة ليعطي لها طعماً جديداً، وقبولا قرائيا. وتناول أيضا قضايا حسية ووجدانية ترتبط بضمائر الآخرين مثل الظمأ، الذي تشعر به المرأة وهي تتعطش للفرح وتتحول حياتها الى بحث مستمر عن مآتم تنتحب بها وذلك في قصة "الظمأ"، في قصصه إدانة للجهل الذي تسبب بفيضان لإحدى القرى في قصة "الكارخ". وفي قصه ادانة لمعتقدات يراها تعرقل مناسيب السعادة كالنذر بذبح ثور أن عاد الغائب من الحرب، ليقرر ذلك الغائب ذبح الثور بنفسه فيرفسه ويموت قاتلا معه حلما جميلا لأمه في قصة "الثور" في النهاية أجده قاصا يتعامل مع قصه بمقاييس أهله، وأصدقائه، وأمته على أساس قلق مثمر و حي، وتشكك قائم من أجل الوصول إلى اليقينية،
والحقيقة.