نوارة محمد
يقولون لي مراراً إن العمل الصحفي ليس المهنة التي تستحق الحلم، وهو لا يخدم أصحابه لا على المدى القريب ولا البعيد، لكني أحب ممارسة هذه الفكرة الإبداعية، وبالنسبة لي فإن واحدة من أعظم متع الحياة أن أغرق بالكتابة.
لم يكن نجاحي يشمل العلامات الدراسية المرتفعة فحسب، بل أنني تفوقت على زملائي في الكتابة والتعبير، متأثرة بكلمات سمعت بعضها من والدي، وعرفت بعضها الآخر من كتب ومجلات مبعثرة بشكل فوضوي هنا وهناك في منزلي، وأنا عدا هذا وذاك مستمعة جيدة لنشرات الأخبار التلفازية والراديوية وقارئة للصحف والمجلات التي تقع بين يّدي. كنت وقتها أعتقد أني لا أملك سوى القراءة والكتابة كوسائل ترفيه، لكن الأمر تحول إلى أكثر جّدية عندما بلغت العاشرة من عمري حين سألتني المعلمة في يومنا الدراسي الأول سؤالها الرتيب الساذج "ماذا سأصبح حين أكبر؟" أجبتها بشقاوة الصِغار، أنني سأكون صحفية مثل أطوار بهجت.
لم تكن ثوانٍ معدودة حتى شعرت بثقل الكتاب ينزل على رأسي، "حتى يجيبوج مكفنة" لا أعرف حينها هل كان هذا سببا كافيا لأتلقى هذه الصفعة؟ ولكنها بكل تأكيد دفعتني لأكتب أسبوعيًا مراجعات عمّا يحدث حولي. أكتبها عّلها تُنشر من قِبل والدي "الكاتب" وبشيء من البراءة حسبت أن شيء مثل هذا قد يحّدث سهواً من دون أن ينتبه. فُتنشر كتاباتي رغماً عنه. كانت صفعة الست ميسون بداية لحفنة من الصفعات التي تلقيتها في هذا العالم المترع بالمفاجأة، شعور التحدي بداخلي حينها كان ساري المفعول لمواجهة عالمي الممتلئ بالسموم، وبغية قبولي مثلما أريد في مجتمع تحكمه العادات وتسيطر عليه التقاليد القبلية كان لابد من أن أكون صلبة وقاسية الوجه.
ومع بداية الانفتاح على عوالم خارجية أخرى جديدة واتساع نطاق المعرفة على مدى أوسع دفعني فضولي المعرفي لاختيار قسم اللغة الانكليزية، وهو ما لم يكن ليمر مرورا عابرا، فالعيش مع أبطال الأدب الانكليزي كان شديد الأثر على شخص مثلي، شديد الملاحظة والعاطفة، وكان عليّ أن اعيش مع أبطال هذه الرحلة بشكل أو بأخر.
أن تعيش مع الشعر والرواية والمسرح ليس سهلا ابداً.. وأنا كنت شديدة التعلق بشكسبير وشعراء العصر الفيكتوري ماثيو ارنولد، روبرت برواننغ، إيملي برونت، جورج اليوت، توماس هارد، رحت أتأثر ببيكت وأتغذى فكريا على أطروحات ارثر أحببت المسرح الذي صنعتهُ هذه الشعوب. وكثيرا ما أجدني لستُ سوى ذاكرة متجولة لتلك الرحلة.
ومن هنا تعلمت أن أحب موسيقى فريدريك شوبان وريشارد كلادرمان، عّرفت أن أدبا وشعوباً أخرى تجعلنا أكثر قُدرة على العيش بمتعة. عرفت كيف تترجم القصائد وما مدى أهمية الترجمة في حيواتنا، تّعزز حُبي للكتابة وامتلأت عاطفتي الجياشة بهذا العالم وزاد إصراري بأن أصبح كاتبة أو صحفية على الأقل، مثل أطوار بهجت أو سيلفيا بلاث، أو ايزابيل الليندي، اجاثا كريستي، لا يهم الأهم من هذا كُله أن سؤالا واحدا يروادني ماذا سأفعل غير الكتابة؟ إلى أي الأمكنة يجب أن انتمي، عداها وهل هي كافية لأعتاش عليها كمردود مادي؟ لو كان الجواب لا، إذا لِم أنا هُنا؟ لكنها الطريقة الوحيدة التي يمكنني من خلالها أن أزيد من احترامي لذاتي، فأنا لن أنتمي لثقافة التفاهة السائدة، وأمارس إرادتي الحرة. وعلى ذكر الإرادة الحرة، فكم من ذلك كله يعد إرادة حرة؟ الأهم من هذا كله أنني قررت، وأعتقد أن هذا أفضل قرار اتخذته في حياتي، أن أكون كاتبة وصحفية.