يعد مصطلح الوجوديَّة existentialism من أكثر المفاهيم شيوعاً وأكثرها سوء فهمٍ أيضاً، فقد استعمل في أغراض متنوعة من قبل فلاسفة وعلماء نفس وعلماء دين ولاهوت وروائيين وفنانين وعدد كبير من الناس بشكل أفقد المعنى الحقيقي للوجوديَّة، وأشيع، حتى بين مثقفين، أن الوجوديَّة تعني الإحساس بالحزن والعجز والكآبة واليأس أو (إبراز الجوانب السيئة في الطبيعة الإنسانيَّة) على حد تعبير سارتر.
الوجوديَّة والاغتراب
الخاصيَّة السايكولوجيَّة الأهم في الوجوديَّة هي مفهوم الاغتراب Alienation. فالمنظور الوجودي يرى أنَّ أي شيءٍ يتعارضُ مع مدركاتنا الجارية وتعبيراتنا عنها يقال عنه اغترابٌ يؤدي بالإنسان الى العزلة بسبب ضغوط المجتمع المعاصر ومطالبه، فالكثير من مؤسساتنا الاجتماعيَّة تفرضُ علينا مطالب تتعارض مع حاجاتنا الإنسانيَّة الذاتيَّة، والكثير من الضغوط تجبرُ الفردَ على المسايرة، وتقمعُ حريَّة التعبير الشخصي لديه.. ما يعني أنَّ الوجوديَّة تنظر الى الحريَّة على أنها تحدٍ أخلاقيٌ خطير، لأنَّ الإنسان غير قادرٍ على استثمار حريته في مجتمع له قوانين وقيم وتقاليد ومؤسسات ضبط، وانه من دون الإحساس بالهويَّة الشخصيَّة وبالقيمة الجوهريَّة للذات فإنَّ الإنسان قد يكون (لا شيء) سوى (كائن) يحسُّ بالأسى والعزلة.
والخاصيَّة السايكولوجيَّة الثانية للوجوديَّة يطلق عليها (مسؤوليَّة الفعل) Responsibility for action..وتوكيدها بأنَّ (المعنى) هو الوحيد الأهم في حياة الإنسان، أوضحه سارتر في مصطلحه (الوجود - لذاته) (Being- For- itself)..بقوله أنْ يعيش الإنسان نمطاً من الوجود المميز، فإنَّه لا يكون سكونياً أبداً بل هو دائماً في عمليَّة تكشف أو تجلي الأشياء الجديدة عن ذاتها وعالمها من خلال اتخاذ القرارات كوسيلة لخلق المعنى، ولهذا يجب أنْ يتحمل الإنسان أفعاله، ولهذا يجب أنْ نستمتع بحياتنا الى أقصاها.
سايكولوجيون بارزون
مع أنَّ الوجوديَّة في الأصل (فلسفة) فإنَّه ظهر فيها سايكولوجيون بارزون أسسوا ما صار يسمى (علم النفس الوجودي). ففي أميركا ظهر عالم النفس (رولو مي) مبتكراً فكرة جديدة في العلاج النفسي، هي تشجيع المريض على أنْ يتحمل مسؤوليَّة أعراض الاضطرابات التي تظهر عليه، معللاً ذلك بأنَّه هو الذي اختار ذلك بنفسه، وأنَّ عليه أنْ يختارَ سبلاً أخرى توصله الى أنْ تجعل لحياته معنى.
ونبّه (مي) الى أنَّ النتيجة الأساسيَّة للإرباك أو التشوش تأتي من عدم التكامل في القيم والشعور (بالفراغ) من الداخل وبالعزلة عن المجتمع. ولا يقصد بالفراغ أننا فارغون فعلاً أو من دون إمكانيَّة على الشعور، بل أنَّ خبرة الإحساس بالفراغ تأتي من الشعور بالعجز، إذ تبدو الأحداث خارج سيطرتنا، ولا نبدوا قادرين على توجيه حياتنا الخاصة أو التأثير في الآخرين أو تغيير العالم المحيط بنا، وأنَّ محاولاتنا في أنْ نحمي أنفسنا أو ندافع عنها ضد اليأس ستقود إلى قلقٍ مؤلم.
وفي النمسا، ظهر طبيبٌ نفسيٌ وجوديٌ اسمه (فرانكل) تعرض للسجن خلال الحرب العالميَّة الثانية، وتوصل من خلال خبرته الشخصيَّة في السجن، واكتشافه لوجود نوعين من السجناء: نوع حافظ على وزنه وصحته النفسيَّة، ونوع فقد الكثير من وزنه ويعيش حالة حزن واكتئاب، توصل الى تحديد معنى (المعنى) من خلال ثلاثة أنواع من القيم هي:
قيم الخبرة (التي تتحقق من خلال الوجود المدرك في العالم)، والقيم الإبداعيَّة (التي تتحقق من خلال الفعل المباشر في العالم)، وقيم الاتجاه (التي يتوقف تحقيقها على وعي الفرد، وتكون ممكنة حتى حين يحال التعبير عن قيم الخبرة والقيم الإبداعيَّة). وفي ضوئها طور فرانكل أسلوباً خاصاً في العلاج النفسي يهدف الى تشجيع الفرد على أنْ يكتشف، بعد بحثٍ متمعنٍ، ما هو ذو معنى بالنسبة له في عالم يبدو له عديم المعنى.
نرجو أنْ يكون القارئ الكريم قد أدرك أنَّ أهم خاصيَّة سايكولوجيَّة نبهت إليها الفلسفة الوجوديَّة هي (المعنى)، وأنَّ طريق الخلاص من الشعور باليأس هو أنْ تجعل لوجودك وحياتك معنى.