صلاح السيلاوي
احتفى اتحاد أدباء كربلاء بتجربة القاص والناقد جاسم عاصي عبر أمسية تحدث فيها المحتفى به عن المكان في سردياته مارّاً على أمكنة عاش فيها وكتب عنها عبر فترات زمنيّة متعددة من حياته، شارحاً علاقته بها وأثرها على كتاباته ومدى تواصله مع مرجعياتها التاريخيّة والاجتماعيّة.
الأمسية التي أدارتها القاصّة إيمان كاظم ابتدأتها بالحديث عن تجربة عاصي مشيرة إلى مسيرته في مجال التعليم التي ابتدأت في عام 1964حتى تقاعده عام 2008 لافتة إلى تأسيسه لدار ثقافة الأطفال، ومكتبة تابعة لدار الشؤون الثقافية في كربلاء وتاريخ نشره لمنجزه السردي في الصحف العراقية والعربية عام 1965، وأن له إحدى عشرة مجموعة قصصيّة وست روايات واربعين كتابا بين نقد الشعر والسرد والتشكيل والفوتغراف والأساطير وآخر اصداراته كان (التخييل في الرواية العربية) و (المجاورة والانزياح دراسات حول التناص).
بدأ المحتفى به الحديث عن أول كتاباته التي كانت قصة عن الموت مشيراً الى أنّه متعاشق مع الموت منذ بدايات حياته ومضى يتحدث عن تفاصيل من طفولته وصباه وشبابه وعلاقة كل ذلك بعالم السرد وارتباط ذلك بالجسور المعرفيّة الكثيرة التي وصلته بالأمكنة العراقية المحتفظة برمزيتها الحضارية والتاريخية فضلا عن اختزالها لأزمان متعددة.
ثم طلبت مديرة الأمسية توضيحاً من الضيف عن رأي نقدي له يتحدث فيه عن محدوديَّة المكان وانفتاح الزمان عليه وكيفية انطلاق السارد من محدوديَّة المكان إلى زمانية تحتوي على سرد شامل فأجاب عاصي متحدثاً من مكان بصري في شارع الجزائر يرتبط بذاكرته مع ظلم وتعسّف الأجهزة الأمنية في أيّام صباه وكيف تحول ذلك المكان الى نافذة سردية واسعة لها مجموعة من العلائق بأزمان وأمكنة أخرى.
كما تكلّم المحتفى به عن ذلك الجسر السردي الذي يصنعه بين الأمكنة والتخييل إذ يضيف عليه لمسات مطعمة بنكهات من المعرفة والوعي الثقافي الممتزج بشيء من الأسطرة.
ولم يخلُ حديث عاصي عن اهتمامه بالأسطورة وقراءاته المتعددة للأسطورة السومريّة والبابليّة والآشوريّة لافتاً إلى فضل الباحث ناجح المعموري عليه في توجهه نحو الأسطورة. تحدث بعد ذلك عن أجواء حياته في جنوب العراق مشيراً إلى امتزاج سنوات عمره الاولى هناك بشيء من الواقع المؤسطر، مؤكداً على أنَّ الأسباب الأولى لاهتمامه بالأسطورة كان بسبب اقتراب واقعه المعاش من ملامح الأساطير، فمضى يؤسطر ما يعيشه سرداً ويبحث عن الجذور الأسطوريّة لما يعيشه من واقع مختلف.
ثم تكلم عن بعض رواياته ومنها (انزياح الحجاب ما بعد الغياب) التي كتبت في زمن الطاغية صدام ونشرت في ذات الوقت لافتاً الى الكيفية التي تمحورت فيها الرواية حول الموت وانبعاث الحياة ايضاً.
وكان لكتاب (جماليات المكان) لمؤلفه غاستون باشلار حصة من سياحة المحتفى به بين كتاباته وقراءاته إذ أوضح للجمهور كيف أصبح هذا الكتاب مرجعا نقديا مهما فتح الأفق واسعا لرؤية المكان العراقي بطريقة جديدة.
مشيراً إلى فضل الكتاب المعني في تقديم رؤية أو كشف مختلف لطاقة المكان وأثره ومحوريته في السرد والنقد العراقي.
وفي جانب آخر من حديثه تطرّق عاصي إلى كتاباته النقديّة التي تناول فيها المكان باحثاً من خلاله عن الإنسان وكيف أصبح المكان قادراً على اختصاره او التأثير به.
ذاهباً برأيه إلى أن الأمكنة تطرح مفاهيم معينة على اختلاف بيئاتها ومكتنزاتها التاريخية والمعرفية والاجتماعية وأنّها مولدة للأفكار.
أوضح بعد ذلك كيفية استعماله للأمكنة في رواياته وبالخصوص (مستعمرة المياه) التي تحدث فيها عن الأهوار وما دوّنه وما رآه عن معتقد سكانها في ما يخص (حفيظ) وهو مكان -(إيشان)- في وسط مياه الأهوار يرتبط اجتماعيا بذاكرة سكانها بروايات وأحداث مختلفة ومنها أن حفيظ هو كنز لا يمكن الوصول إليه، ومنها ايضاً أن كل من يصل إلى حفيظ لا يمكن أن يعود سالماً، وفي هذا الصدد أكد عاصي أنّه كان قد شاهد (حفيظ) عندما كان معلماً هناك في إحدى الليالي لحظة غياب القمر حيث شاهد وهجا يخرج مثل النافورة من أحد أماكن حفيظ ولهذا دوّن المحتفى به في روايته عن حفيظ ما يلي: (حفيظ كنز أو وهج كلما اقتربتُ منه ينأى) وذهب عاصي إلى أنّه أضفى أسطرة خاصة الى ما يمتلكه الواقع في الاهوار.
تخلل حديث المحتفى به تقديم باقة ورد من قبل الشاعر والروائي سعد السمرمد للضيف وسط تصفيق الجمهور.
وبعد أن أتمَّ عاصي حديثه عن عوالم الأمكنة العراقية في سردياته ونقده ابتدأت مداخلات متنوعة سلّطت بعضاً من الضوء على الجوانب الجمالية والفنية في منجزه عبر تقديم قراءات نقدية وشهادات حياتية وأسئلة حول سرده ونقده تناوب على تقديمها كل من الشاعرة الدكتورة سليمة سلطان نور والناقد حيدر العابدي والشاعر صلاح السيلاوي والباحث عبد الرزاق عبد الكريم والقاص أحمد طابور.
وفي ختام الأمسية قدم عضو الهيئة الإدارية للاتحاد القاص حمودي الكناني شهادة تقديرية للمبدع الكبير جاسم عاصي.