سوسن الجزراوي
(إنّهم يريدون أن يفتحوا العالم وهم عاجزون عن فتح كتاب!!)
بهذه العبارة عميقة المعنى، لخّص الشاعر نزار القباني، إشكالية القراءة وأزمة القرّاء في الوطن العربي .
ولربما كانت هذه الفكرة التي راودته، تحمل معانٍ خطيرة حول مفهوم القراءة وأهميتها الكبيرة في إغناء العقل البشري، بما في جعبتها من حروف تمَّ رصفها بفصاحة وسطوة مبهرة، استطاعت أن تكون سلاحاً نافذاً عند أصحاب الفكر المتقد .
وقد يتساءل البعض، هل أن هذه الازمة الثقافيّة هي وليدة هجينة لعصر الحداثة والتكنلوجية، والتطور الآلي الذي اختزل كل العالم وأحداثه، بنقرة أصبع على لوحة المفاتيح الرقميّة؟ أم انه عزوف عام عن الكتاب، تحكمه الأمزجة المتقلّبة والتي باتت خاضعة لمنطق البلادة والتقاعس؟
وفي كلتا الحالتين، ومهما كانت الحيثيات، يبقى (الكتاب)، الضحية المحزنة في خضم صراعات السذاجة والتراخي الفكري، فالكاتب جاد بعصارة روحه، منكباً على تلك الوريقات الصامتة، ليحولها الى لوحة ناطقة، والمصمم اختزل ابداعه الفني، في نسج غلاف ذاك الكتاب، ودارت مكائن الطباعة لتنتج هذا الكيان الأنيق، الذي يرحل بلا رحمة ليقنط بين ثنايا الرفوف المنسية !
في منعطف آخر لقضية الكتابة والقراءة، يرى بعض علماء النفس، أن القارئ النهم، هو في الغالب شخص انطوائي الى حدٍّ ما ، اختار العزلة بعيداً عن الواقع الحياتي، لينزوي في عالم خاص يحاكي فيه أبطال الحكاية وشخوصها، ويباري صنّاع الكتاب بما تفسّره كينونة روحه، كذلك الحال مع الكاتب الذي آثر أن يأسر قراءه بعوالمه التي نتجت عن خياله وافكاره متمازجة مع مزاجيته وتلك الرغبة الجامحة على شدِّ القارئ بشتى الوسائل .
ولا تقف حدود هذه الظاهرة المتعلقة بموضوعة الكتاب ورواده عند ما تمَّ طرحه حسب، بل إنّها قضية غاية في الأهمية تمتد أذرعها الى تفاصيل كثيرة في بنية العقل الانساني، فالقراءة لمن كتب لنا، إنّما تلعب دوراً بالغ الأهمية في تشكيل شخصية الاسنان، ومن ثمَّ تمنحه خاصية معينة تضاف الى مايمتلكه من ميزات عديدة، فما تشعر به وما تتصرفه وما تسلكه في حياتك، انما يعتمد بشكل من الاشكال، على ما قرأته من كتب، وما كتبته من ارهاصاتك واحلامك وامنياتك، فالكثير منّا عاش تجربة المغامرات تارة والغموض والجريمة تارة اخرى، فيما غرق البعض في أعماق الحب والرومانسية، في الوقت الذي صُقلت فيه موهبة العلم وتطورت لدى البعض الآخر ممن تأثر بنتاجات علماء الطب والفيزياء والرياضيات وباقي كتّاب هذا النوع من المؤلفات .
ولربما من بين كل هذه الأنواع، تقف الكتب الانسانيّة ومن ثمَّ العاطفية، على رأس الهرم، فما من شخص إلّا وقرأ لأجاثا كرستي مثلا، او للعقاد او لجبران خليل جبران أو لماركيز او للقباني او لفؤاد التكرلي و و و ، هؤلاء الذين جسّدوا بشكل ما، حالة الحب وقصص اجتماعية وحكايات من واقع الارض التي عاشوا فيها، فرواية (الرجع البعيد) للتكرلي، تناولت قصة عائلة عراقية في أيام عبد الكريم قاسم وبالتحديد مأساة (منيرة) التي كانت ضحية ولم يقوَ أحد على إنقاذها مما حصل لها !
في حين جسّد ماركيز حالة العشق السرمديّة في روايته (الحب في زمن الكوليرا)، في الوقت الذي برعت فيه أجاثا كرستي في شد القارئ من السطر الاول حتى نهاية الحكاية، بتفاصيل واثارة وترقب وتحليل لأحداث الجريمة .
كل هذا يقودنا، الى ان الكاتب هو بطل القضية برمتها، ويلعب القارئ الدور الرئيسي الساند .
ويبقى التساؤل قائماً: من يكتب ومن يقرأ؟؟ وهل خَبَت لهيب النار المضطرمة؟ فالقراءة تشبه اتقاد النار التي تحيل صقيع البرد الى دفء استثنائي يمنح الروح طمأنية وأمان وقدرة على التحليق في عوالم خفية جميلة، فاقرؤوا ما يكتبه لكم المبدعون، وكما قال جبران: إنَّ القراءة للنفوس حياتها** كالجدب يخصب من فرات الماء/ فاقرأ كتابك إن أردت مكانة** فالمجدُ يُحني الرأس للقرّاء .