الكلاسيكيَّة الخالدة.. الفراغ الهائل المروّع

ثقافة 2024/10/27
...

  يقظان التقي 

 ربما تكون "الموناليزا" الوجه الأنثوي الأكثر شهرة في العالم. كل يوم يحدق نحو 20 ألف نسمة في لوحة ليونارد دافنشي في متحف اللوفر في باريس. 

ليس لأن اللوحة عمل فني جذّاب في غموض الابتسامة، بل بسبب لص، عامل عادي سرق اللوحة، التحفة الفنيَّة في عام 1911، وكانت لا تزال غير معروفة في الغالب. فتدقق المشاهدون لرؤية ما وصفته حينها صحيفة فرنسية "الفراغ الهائل المروع". 

من المفترض أن تحمل كلاسيكيات الفن والأدب والموسيقى بعض الجاذبية الغامضة، التي تستمر عبر العصور. لكن المؤرخ روشيل جورسيني يعد في كتاب جديد أنَّ "الكلاسيكية الخالدة"، ليست كذلك على الإطلاق، ويؤكد أنَّ "المكتوب على الحجر هو المكتوب في الماء". يعني أنَّ الكلاسيكيات تأتي وتذهب مثل أعمال أخرى سبقت شهرة "الموناليزا"، فحتى نهاية القرن التاسع عشر لم يكن لدى "داود" العمل النحتي الهائل لمايكل أنجلو سوى ورقة التين لحمايته من العناصر الخارجيّة في ساحة ديلا سيجنوري في فلورنسا، وكان يجذب الحمام أكثر من الزائرين. حيث كان معظم خبراء الفنون يفضّلون تمثال لوسي في روما. وقبل اكتشاف "فينوس دي ميلو" 1820، كان المشاهدون مبهورين بـ " فينوس دي ميد يشي" وهو تمثال رخامي رائع يصور آلهة الحب والجمال أفروديت في القرن الأول قبل الميلاد. ولكنّه متواضع الى حد لم يسمع به معظم الناس الأحياء. 

إنَّ صعود أو سقوط الكلاسيكيات ليست مسألة تغيير الأذواق، بل أن الفن نفسه في تغيير. لكن اعتاد الفنانون على تصور أشكال مثالية من الجمال. كأن الفنان "طفل التقليد"، ويتعلم الفنانون من خلال دراسة وتقليد التقليد. 

هذه المثل العليا الكلاسيكية تعرّضت للتحدي ممن خلال الاكتشافات. لم يعطِ البريطانيون المنحوتات الرومانيَّة القيمة العالية، و"المثل العليا تلاشت مقاربة بالرخام الباقي، وبدأ الفنانون يعانون من "الاغتراب التدريجي" عن التقاليد الكلاسيكيّة، كما غيّرت كتابة التاريخ الأذواق. 

قدم  الرسّام الإيطالي جورجيو فاساري في القرن السادس عشر رواية مؤثرة عن التقدم الفني، بلغت ذروتها في الواقعيّة التي أظهرها رافائيل ومايكل أنجلو. ولكن في القرن التاسع عشر لفت جون روسكين، - وهو ناقد- الانتباه الى حركة ما قبل الرافائيلية عندما زعم أنّ الأساتذة القدامى الحقيقيين كانوا في الواقع رساميين في العصور الوسطى ما قبل الكلاسيكيّة. كما قام الناقد البريطاني والتر هوارشيو باتر بدفع التفسير الفردي للفن بوصفه المعيار الأكثر أهمية للتحكيم عبر زرع مفهوم النسبيّة الجماليّة التي لا تزال سائدة الى الآن. 

إنَّ الروائع المعاصرة اليوم، والتي يتم شراؤها في المزادات بملايين الدولارات تطرح سؤالا كبيرا، كيف سيشعر النقاد بعد مئة عام من الآن تجاهها؟ 

كذلك هي كلاسيكيات الموسيقى والأدب، لم تكن دائماً ثابتة، ينظر اليوم الى يوهان سيباستيان باخ بوصفه سيّد الموسيقى الكلاسيكيّة، لكن بعد وفاته عام 1750، خرجت مؤلفات متناقضة عن غموضه، حتى أعاد فيلبكس مندلسون "ملحن ألماني" اكتشافها في عشرينات القرن التاسع عشر. 

 في الشعر، كان جون كيتس أعظم الشعراء الرومانسيين. لكنه كان موضع انتقادات سيئة جداً، يعتقد أنّها تسبّبت بوفاته 1821 في الخامسة والعشرين من عمره. نشر هيرمان ملفيل رواياته من دون أثر، حتى أنقذه نقاد مثل ألموند ويفر من أعماق الغموض في الذكرى المئويَّة لميلاده. 

بالخلاصة، مكانة الكلاسيكيات تعتمد على النقاد، وهي شهادة على قوة الكُتّاب المتحمّسين لتغيير الطريقة التي ينظر فيها الناس الى الفن. 

يتطوّر الذوق، ويجب أن يتطور. لكن الثقافة لا تعيش الا طالما استمرَّ الناس في الجدال حول ما يعد أنّه كلاسيكي اليوم. العدو الحقيقي للكلاسيكي ليس النسبيّة أو الوعي. إنّه الصمت.