هدية حسين
تبقى القصة القصيرة متوهجة على الرغم من كل المحاولات التي تريد لهذا الجنس الأدبي من موات، فهي الومضة التي تعطيك بأقل الكلمات ما تريد التعبير عنه، تكثف المعنى وتصل الهدف من دون زوائد ولا إطناب ولا تزويق، وكم أشعر بسعادة حين تقع بين يدي مجموعة قصصيَّة للشباب الذين اختاروا القصة القصيرة بداية لمسيرتهم الأدبيَّة، وها هي مآب عامر تخطو بثقة وتقدم لنا مجموعتها (تنورة جينز قصيرة) الفائزة بالمركز الثاني في مسابقة الأدباء الشباب، الدورة الخامسة 2024، دورة الشاعر بدر شاكر السيّاب.
إنّه الإصدار الأول للقاصة، وعادةً ما يكون للإصدار الأول نكهة خاصة، مثل المولود الأول الذي سيبقى في الذاكرة مع كل الهواجس التي تنتاب الكاتب لدى تقديمه هذا المولود، لينتظر ردود أفعال النقّاد والقرّاء.
قصص عامر بانوراما كاشفة للمجتمع وللحياة، بنماذج متعددة، وللمرأة فيها المكان الأبرز، تلتقط من الحياة مادتها فتضعك مباشرة أمام صور كنتَ قد رأيتها ومررت بها مروراً عابراً، أو تجاهلتها في زحمة مشاغلك، فتُذكّرك بها وتقول لك إنّها حياة يجب أن تظل في الواجهة من اهتماماتك، بكلِّ ما فيها من تناقضات وإشكالات ومعاناة ومباهج عابرة وأحلام ضائعة، وفيها أيضاً فقراء وحالمون وباحثون عن فرصة ليكون لهم وجود بين هذا الزخم من حولهم، وفي القصص جميعها تتقاسم الشخصيات والأمكنة دور البطولة، وسنرى كيف تؤثث القاصة قصصها بالكثير من التفاصيل وبفنية عالية، حتى لكأنّك ترى بعينيك وتلمس بأصابعك الأشياء التي شكّلت القصة، وكل قصة هي لوحة مرسومة بالكلمات، بريشة فنانة تدخل منزل الأدب للمرة الأولى بقصص فارقة، وهذا يجعلنا نتنبّأ بمولد قاصّة متميزة ستكون الرواية إحدى محطاتها في المستقبل، ذلك أنَّ الرواية هي فن التفاصيل الصغيرة ومآب عامر تهتم كثيراً بأدق التفاصيل، وحتى ذلك الوقت دعونا نتوقف عند بعض قصص المجموعة.
في القصة التي حملت عنوان المجموعة (تنورة جينز قصيرة) تضعنا القاصة أمام لوحة زاخرة بنبض الحياة، كل ما فيها يتحرك، الصخب والمرح وشجارات الأطفال وضحكاتهم وحتى شيطنتهم، كل شيء تضعه في مكانه، الشوارع والدكاكين التي تعرض بضاعتها الشعبيّة وأعمدة النور والأشجار والبيوت، وكذلك النساء اللواتي يتبادلن الحوارات أمام عتبات البيوت، بثيابهن المزركشة البسيطة وضحكاتهن المقننة، وتلك الطفلة التي تأخذ دور البطولة في القصّة، إنّها تغرّد خارج السرب، ترتدي التنورة الجينز القصيرة، وتشعر بالخوف والإحراج كلما رفعت الرياح تنورتها الى الأعلى، فكل من حولها من النساء يضعن قطعة قماش فوق رؤوسهن ويلبسن الملابس الطويلة، وعلى الرغم مما تشعر به الصغيرة من خوف وإحراج الا أنّها تمضي قدماً، تركض في الشارع الطويل لتلتحق بجوقة الأطفال الذين يتحلقون من حول المسحراتي الذي يدور على البيوت ليجمع العيديَّة بعد ليالٍ طويلة قضاها وهو يضرب على الطبل ليوقظهم وقت السحور، وتبلغ ذروة فرحها وانبهارها بالمسحرجي، لكن يداً خفية لأحد الفتيان توقف فرحتها حين تمتد إليها لترفع تنورتها، تلتفت مذعورة، لا تركن للصمت أو للهزيمة وإنما (بادرت الى دفعه بكل قوتها، فارتطم أرضاً) ص12
إننا أمام طفلة غير تقليديّة، تريد أن ترصد وتعرف كل شيء في عالمها الصغير، ففي الغروب تتسلل الى سطح الدار وترصد أخاها الذي يتسامر مع ابنة الجيران، وعلى الرغم من صغر سنها إلا أنها طفلة من طراز خاص وباحثة عما يمكن أن يكون ألغازا تريد فكّها، وتريد أن تعرف ماذا يفعل أخوها عندما يصعد الى السطح ويلتقي بابنة الجيران، في وقت تدرك فيه أنّها تخرق قواعد السلوك، مندفعة (بقدر العناد والتنمّر الذي تحمله دونما اكتراث لعقوبات والدتها) ص12.
ستخزن الطفلة كل تلك التفاصيل مع ما يستجد وتراه أو تمر به خلال سِنِي طفولتها، وتدرجها في ذاكرتها البكر، فأية امرأة ستكونها تلك الطفلة في المستقبل؟، المكان يتسيّد في هذه القصة كما في بقية قصص المجموعة، حيث ترى وتلمس، الشارع، البيت، سطح البيت، الباص، المدرسة، الطبيعة بكل ما تحمله من ألوان ومباهج، وهموم أيضاً، وبجمل قصيرة وموحية بدلالاتها المباشرة وغير المباشرة، وحينما نفرغ من قراءة القصص سنعرف أيَّ صوت متميز لا يشبه السائد في تجارب الشباب تملكه مآب عامر.
وفي قصة (فراش ساخن) تنقلنا مآب عامر الى عالم فتاة إحساسها بالزمن مفقود، تلعب مع نفسها لعبة الضجر وتعيش حالة سأم دائم، الوقت لديها ثقيل ومزاجها متعكّر من شيء ما سنعرفه في سياق القصة، المكان في هذه القصة ضيق، لا شوارع ولا ساحات ولا بيوت، إنّها تقبع في غرفة مؤثثة بالفوضى وبعدم الترتيب والأشياء من حولها عتيقة ومبعثرة، وتبقى طيلة ساعات الليل صاحية ومتوحّدة مع نفسها، عالمها صامت وساكن كما يبدو للوهلة الأولى، إلّا أنّه ضاج بالتقلبات المزاجية والملل واللامبالاة، ويمكن القول إنّ هذه الفتاة تعيش خارج الزمن، وقبل نهاية القصة سنعرف أنّها تعيش مع والدها من دون أن يكون لهذا الأب فعل واضح في القصة، لا تأتي الفتاة على ذكره سوى في نهاية القصة عندما نادت عليه بسبب احتراق المبردة، ولم نسمع له رداً على مناداة ابنته، لكن عدم ظهور الأب له مغزى، فحالة الفتاة وضجرها وتوحدها لا يمكن أن يأتي من لا شيء، ولما لم يجبها فقد عادت الى فراشها (لتغطَّ في نوم عميق وكأن شيئاً لم يكن) ص31 ويمكن للقارئ أن يدرك الهوة السحيقة بين البنت وأبيها الحاضر الغائب.
وهذه صورة مؤثرة لفتاة في قصة (على الرصيف) تحكي عن معاناة من نوع خاص، تنهمك في البحث عن شيء ما وسط كومة النفايات، وحدها تتسيّد القصة والبقية عابرون، يوحي مظهرها بالفقر، ويسيطر عليها القلق والتوتر لما ضاع منها والذي سنعرفه في نهاية القصة، لا شيء يشغلها، عيناها مثبتتان الى الأرض، تتنقلان بين الأشياء المتراكمة في مكب النفايات وأكوام الرمل، وبين الروائح الكريهة في يوم تموزي لاهب، ليست "نباشة" كما ظن أحد العابرين ورمقها بسخرية: ماذا تفعلين، هل أصبحتِ نباشة؟ مجسّاتها تتكهرب فربما يكون هذا الرجل من الخاطفين، تكشر بوجهه فيبتعد عنها، وتواصل بحثها المضني لعلها تجد الشيء الذي ضاع منها، تعبر الى الجانب المقابل حيث المتاجر، تشهر سؤالها بوجه البائع مستفسرة منه عمّا إذا كانت قد نسيت لديه ثلاثة آلاف دينار!، ولما تعجز تجلس على الرصيف وتقلب الأمر باحثة عن حل ينقذها من عقوبة مرتقبة.
قصص مآب عامر تستحق الوقوف عندها مطولاً، كُتبت بأسلوب معبّر ولغة ثريّة ومكثّفة غلب عليها الوصف من دون أن يختل البناء القصصي لديها، لكن الوصف الخارجي للأشياء لم يمنعها من الغور في دواخل شخصياتها والكشف عمّا هو مختبئ وراء الشكل الخارجي، والملاحظ أن الكاتبة تركت شخصياتها من دون أسماء، ذلك أن ما يمور في داخل الشخصيات يحدث كل يوم لكثير من الناس، وفي حوار لها أجابت عن ذلك (ما قيمة الأسماء؟ لقد غيّبت المرأة منذ أمد بعيد، وما تزال أحياناً تخضع وأحياناً تثور على هذا الواقع) ولا شكَّ أن من كتبت هذه القصص تستحق أن يكون لها مكان متميز على خارطة الإبداع العراقي.