ياسين طه حافظ
هو هذا ما نحتاج له، أحياناً من دون أن ندري وأحياناً، وهي ساعات الوعي، ندري ونسعى لأن نمتلك ونمارس. ما أتحدث عنه، هو الحميميَّة التوافقيَّة، أو "الأسريَّة" في خلق بيئة، وسطٍ، نتدرّج حتى نصل الى بلد، الى حضارية البلد، وذلك الدفء المفرح.. الجماعة المتقدمة هذه، هي أساساً هدف وغاية كل الأنشطة الثقافيَّة، هي مطلب وغاية مجتمع ليفخر او يزهو. لكن قبل أن تكون هذه، ثمة شرط: إلّا تكون حماسةَ لهوٍ، أو فورة تولّع مما يلفت الاهتمام قليلا ويمضي. فعديد من المتأدبين يقعون ضمن هذه المرحلة كما عديد من المثقفين الهواة - تمييزاً لهم عن المتخصصين والبناة. خلاصة الكلام، أنَّ الثقافة ونشاطاتها تسعى لخلق حالة جديدة او متقدمة.
حسناً، اذا كان هذا هو المسعى، فأي استخفاف، او لهو غير وارد. والمثقف بعدئذٍ سيكون بنّاءً وصاحب منهج للوصول. بعض ناسنا لا يحتمل أي إشارة لعبثيَّة أو لهدر وقت ومال بهوسٍ غير مجدٍ. علماً أن أساس كل عمل، الجدوى، وهي هنا الجدوى الثقافية، هي من بعد، كما اوضحنا، جدوى حضارية وهنا اختلف الاديب الجاد، الكاتب الجاد، الشاعر، الرسام الجاد المجتهد عن غيره. الهواة، اللاهون بالعمل، يظلون في مستوى الهوس واللهو. هم غير الساعين، والبناة، غير المجدين يكدحون لجديد او لما هو أكثر تقدماً. أولاء يتحرّكون ويعملون في خلواتهم ضمن رؤية ومنهج وطموح خاص بهم- والخاص بالفرد، عمل سيكون مسهماً في البناء الجماعي من غير إعلان عن ذلك.. أولاء فريق لا يُرى، أو أفراد في فرق تجديد. الكاتب الجاد في انصرافه الى عمله أو فنه، يجدد نفسه، من ثمَّ هو يقدم شخصية متجددة وعملاً متقدماً وأسمى، ويضيف إنسانيّة بنوع اكثر حضارية او احدث او متقدمة تقنيةً او ذوقاً او رؤية. منهجية العمل، جدّيته وخصوصيته غير العمل السائب، او الفوضوي. يمكن ان تميز كاتباً عن كاتب، رساماً عن رسام موسيقياً عن موسيقى ومخرجاً عن مخرج، بذلك التميز. هل هو منهجي جاد صاحب مشروع او رؤية، ام فوضوي؟ المسألة ليست مسألة احترام ولكن مسألة تصنيف، الاحترام يمكن ان يكون للجميع، التقدير مختلف.
لا أريد تسلّطاً معياريّاً ولكني أريد أن أؤكد فيما اكتب من مقالات على نوع الممارسة وقيمتها البنائيَّة، او دورها في تقدم مستوى "الفردي" كما في اسهامها الحضاري. ولذلك احذر من إضاعة العمر بما هو عابر. نحن في العمل نعتمد العقل أولاً ونفيد من العاطفة، لا نعتمد العاطفة اولاً لنفيد من العقل. وإلا ستكون الفائدة قليلة ويحملها العابر معه وهو يضيع ويعبر.
توصف الحضارات بأنها تشكيلات اجتماعية متجددة في أُطر ثقافيّة ودينيّة ونظريات أو مديات أفكار. هي كيانات اجتماعية ترسم مظهراً فكرياً وتقنياً متقدماً. وسؤالنا: من يرسمه؟ إنها، المحصلة التي ترسمهُ؟ انها دينامية مجمل الافعال والافكار والنشاطات الفردية او المؤسساتية لمجتمع الحضارة او بيئتها. هذا يعني أنا الكاتب وأنت الذي تكتب وتعمل وتفكر وتصمّم وتكافح البكتيريا وتصنع الزجاجة... تشتركون في صنع المحصلة التي اسميناها حضارة او مجموعة الافعال والنشاطات والاشكال الحضارية.
في هذا لا تعميم يضيّع الفرديّة ولكن إطاراً يؤكد حضور الفردية والمشاركة في الانتاج الجمعي وفي المحصلة الحضارية. هنا يشعر الفرد كاتباً، مثلاً، بأهمية جهده الخاص ومثابرته على مشروعه. انتاجه او إسهامه جزيئة حضارية مُشاركة في صنع الحضارة. هنا ايضاً، اهمية ادراك الكاتب المتميز الرسام، الصانع، او محاول الاكتشاف. اولاء بتنوعهم ومجموعهم في المدينة، في البلد والدولة وفي القارة والعالم يشكلون أُسْرةً، مجاميع أسريَّة منتجة بينهم مشاركة غير مرئية وانتمائية وجو ثقافي خاص، و سواءٌ كانت الممارسة ثقافية، او طبية او كانت، للايضاح، فناً او معماراً او أدباً.
الشاعر المجد. يعرف رفاقه المجدّين وبينهم صلات خفيَّة إن لم تكن واضحة وكذا المسهمون المائزون والمجددون في حقول التخصص او حقول الابداع الاخرى. والكاتب المجد يعرف الكتاب المجدين المجتهدين ومثلهم الباحثون والعلماء.
قد يحصل استياء او عدم ارتياح او عدم ألفة من "المشابهين" لكن السوى!" اي الذين بينهم قربى من المهنة ولكن بينهم بُعْد من مستوى الجدية والفعل.. أولئك منصرفون لمشاريعهم واولاء، العمل الثقافي بعض من اهتمامهم وليس أهمها. هو امر طبيعي، ان يختلف مستوى ونوع الحميميَّة. ايضاً طبيعي ان يكون ذلك في اي بيئة ابتكارية او اجتهادية. والغريب والمفرح، ان الجميع يسهمون في انتاج الحضارة وكل يختلف عن سواه بوعي وبأهمية ما يضيف او يسهم فيه. من هذه العائلة المجدة وممن حولهم يأتي التغيير وكل بمستوى وبحجم.
مجموع أُسَر الممارسة يرسم ساحة معرفيّة وتقنيّة وعلميّة، هذه "الساحة" قائمة على التماثل العقلي والمهني وأفرادها هم الخطوط الرئيسة التي يقوم عليها النسيج الاجتماعي للمعرفة. حَمَلة الممارسات اولاء هم المظهر الخارجي الحي للحضارة، لكيانها القائم والمتطور مع ما يُتوقَع منه. صاحب الجهد الفرداني، الخاص ببرنامجيته أو "مشروعيته" ومنهجه يعمل كأي صاحب مشروع، هو يختلف مكانة وتركيزاً ومن ثمَّ اسهاماً حضارياً عن الكاتب او العامل الثقافي ضمن الحماسة العامة في الحقل، الاعمال العظيمة، لهذا السبب وبهذا النظر، انتجها الفرديون الكبار، اصحاب المنهج الخاص والأسلوب الخاص ثم المشروع الابتكاري الخاص، هكذا الكتاب العظام والشعراء والصناعيون العظام فورد فرد صناعي، وتولستوي كاتب فردي بمسيحيته الخاصة وكتابته الخاصة وحياته. وقل مثل هذا عن بوشكين او همنغواي او ثربانتس.... عديد حولهم كانوا وكانت لذلك العديد ديناميكية بمستوى ما ولكنها غير مترابطة والتجانسات مهلهلة وليس لمجموع الجهود ما يرسم برجاً أو بناء. الأعمال الفردية، بناء حجراً حجراً ويوماً يوماً وكل الروح والحيوية والحماسة للعمل وقليلة عادةً الكلمات... ما أردت قوله تحديداً أن لنا أسماء كتاب وفنانين ومفكرين يعملون كلاً بمفرده وبصمت، في مراكزنا الثقافية في المدن او بعيداً عنها. اولاء يؤلفون جواً ثقافياً، أسرة ثقافية بينهم وبين موضوعات اهتمامهم حميميَّة غير مرئية أحياناً، لكن تجمعهم روح العائلة الثقافية المبدعة او المفكرة حتى وان كانوا متباعدين في المدن او الضواحي. اولاء يتمتعون بالروح الأسريَّة، بصلات الثقافة وجو الافراد الذين يعملون من اجل جديد، يحققون للأسرة الثقافية تقدماً، قد لا يبدو مرئياً دائماً، ولكن النتاجات تشير الى ما يرضي أو يفرح، وهذا ليس قليلاً..