فلسطين.. تنامي الوعي بتحريرها
ترجمة وتقديم: د. نادية هناوي
شدد إدوارد سعيد في المبحث الثاني من الفصل الثالث من كتابه "مسألة فلسطين" على نمو وعي سياسي فلسطيني ذاتي موحد بشكل حقيقي ومنخرط في التاريخ المعاصر، ومتناغم باتجاه التطلع نحو تحرير فلسطين. وكان للنجاحات التي حققتها منظمة التحرير الفلسطينية أن ساهمت في بزوغ هذا الوعي بتعقيدات القضية الفلسطينية من جانب ويدرك خطورة تاريخ الصراع بين الأقليات المتشددة على الساحة اللبنانية وتداعيات نكسة حزيران على الصراع السوري- اللبناني من جانب آخر. ونقل سعيد مواقف مفكرين مثل البرت حوراني ونورمان دانيال وإبراهيم أبو لغد حيال هذا الوضع. ولقد كان لهذه التحليلات الجيوبولتيكية التي يقدمها سعيد في تلك المرحلة من الصراع العربي الصهيوني أهمية خاصة لجدتها ولأنها تكشف حقيقة المؤامرة، وعن ذلك يقول المؤرخ والروائي الباكستاني طارق علي: "إن إدوارد سعيد ساعد جيلا بأكمله على فهم التاريخ الحقيقي لفلسطين وكان موقفه هذا بوصفه مؤرخا لشعبه وأرضهم المحتلة مما اكسبه الاحترام والتقدير في العالم بأكمله.. لكن لا يبدو أن الكثير من السياسيين في الغرب أولوا ذلك اهتمامهم. لقد كان سعيد يتحسس الضمير الجمعي لهؤلاء وهو ما لم يرق لهم"، (ذكريات مع إدوارد سعيد، طارق علي، ترجمة سامح فكري، مجلة فصول، العدد 64، 2004،
ص22 - 27 ).
وفي المبحث الثالث المعنون (بزوغ الوعي الفلسطيني) يستعرض إدوارد سعيد كيف أن حرب لبنان 1975-1977 وضعت الفلسطينيين أمام تحديات جديدة، جعلتهم طرفا في الصراع اللبناني – السوري، فيقول: (النجاحات الدولية المذهلة التي حققتها منظمة التحرير الفلسطينية واستمرار نجاحها في جميع إنحاء المجتمع الفلسطيني، يمكن تتبعه في المناحي السلبية في السياسة الإسرائيلية وفي إرادة الشعب الفلسطيني التي تبلورت من جراء تقلب المواقف الإسرائيلية. كان الفلسطينيون أول مجتمع عربي يواجه مشكلة السكان متعددي الأعراق. لم تتبن أية مجموعة أخرى موقفا متقدما مثل الذي تمثل في اقتراح دولة علمانية ديمقراطية للمسلمين والمسيحيين واليهود في فلسطين. لم يكن ثمة منظمة سياسية أخرى غير منظمة التحرير- عربية أو يهودية- في المنطقة استجابت بنفس القدر للحقائق المتغيرة بشكل كبير بعد عام 1967 وكالاتي:.
أولا /قامت منظمة التحرير الفلسطينية بتحمل مسؤولية جميع الفلسطينيين عن وعي سواء كان الفلسطينيون في المنفى أو تحت الاحتلال أو داخل إسرائيل. كانت هذه أول محاولة على الاطلاق من قبل القيادة الفلسطينية للتعامل بشكل شبه مستحيل مع السكان الموزعين ضمن خطوط الرؤية الكاثوليكية والتي نصت من الناحية النظرية في الأقل على وجود يهودي مهم (مجتمع، قيادة، سياسة) بشكل ملموس، فتولت منظمة التحرير الفلسطينية مسؤولية التعليم، التسليح، الحماية، التغذية، وتوفير الخدمات العامة للفلسطينيين أينما أمكنها ذلك.
ثانيا / استخدمت منظمة التحرير الفلسطينية سلطتها الدولية لتفسير الواقع الفلسطيني الذي كان مخفيا عن العالم تقريبا لمدة قرن من الزمان، وقدمته إلى العالم. والأهم من ذلك، قدمته إلى الفلسطينيين أنفسهم. ظهرت هوية دبلوماسية فلسطينية مستقلة بالإضافة إلى جهاز إعلامي وبحثي مثير للاعجاب، بما في ذلك مراكز ودراسات ومعاهد بحثية ودور نشر. هذا التعقيد وضع الفلسطينيين أخيرا في اتصال مع الشعوب المستعمرة الأخرى في إفريقيا وآسيا والأمريكتين، وإلى حد ما فقدت الصهيونية ( بالنسبة إلى الفلسطينيين وغيرهم من العرب) قوتها المحيرة والغامضة. تم تحوّل المستوطن الصهيوني في فلسطين بأثر رجعي وفعلي من سيد صامت لا يلين إلى نظير للمستوطنين البيض في إفريقيا، سرعان ما تشكلت المواقف تجاهه إلى قوة قابلة
للتعبئة.
ثالثا / انفتحت منظمة التحرير الفلسطينية كمنظمة سياسية بشكل حاسم على جميع الأطراف لضم المجتمع بأكمله إلى صفوفها. في الواقع ليس من المبالغة القول إن منظمة التحرير الفلسطينية جعلت من الشخص الفلسطيني لا أن يكون أمرا ممكنا حسب (نظرا للتجزئة الكارثية للمجتمع) بل أمرا ذا معنى لكل فلسطيني بغض النظر عن مكان إقامته أو التزامه الإيديولوجي. لقد كانت مأثرة منظمة التحرير الفلسطينية في تحويل الفلسطيني من كيان سياسي سلبي إلى كيان مشترك ومصدر أيضا ربما لخطر الاضطراب كما سأناقش ذلك لاحقا.
اعتقد أن أفضل رؤية شاملة لكيفية اعتبار جميع هذه الأجزاء المتباينة من تاريخ الفلسطينيين وتطورهم معا، تتمثل في تحليل حديث إبراهيم أبو لغد الذي يعد من أبرز المفكرين الفلسطينيين بعد عام 1948 تبنى الفلسطينيون المنفيون والذين بقوا داخل إسرائيل حسب قوله " سياسات التكيف" – على الرغم من أن المنفيين كانوا يستطيعون المشاركة في السياسة العربية ( وليس الفلسطينية) بشكل كبير لأنهم لم يكن لديهم بديل، ولأن القومية العربية، على عكس الصهيونية، لم تكن استبعادية في حين خضع الباقون للنظام الإسرائيلي وتمسكوا بأساليب الفلسطينيين التقليدية في ممارسة السياسة ضمن الإطار الذي فرضته الصهيونية. انخرط المنفيون والباقون في الخمسينيات في ما يمكن تسميته بسياسة الرفض والتي تجسدت في داخل إسرائيل في مشروع أسرة الأرض وبالنسبة إلى المنفيين كان ذلك يعني رفض التسييس مع انتقاد السياسيات العربية "الأخوية" تجاه " تحرير فلسطين".
كانت صدمة حرب حزيران 1967 بداية لاستدعاء سياسة الثورة والأمل. بالنسبة إلى الباقين كان ذلك يعني زيادة في النضال داخل النظام ودعما إضافيا للحزب الشيوعي وموقفه من وجود دولتين في فلسطين مع التأكيد على وحدة الشعب الفلسطيني بغض النظر عن التشرذم. كلا الشريحتين أكدت انتماءاتها الثقافية للأمة العربية ولكن قللت من البرنامج السياسي العربي نحو الوحدة إلى حد ما. نشهد اليوم تقاربا في نهج هاتين الشريحتين ( على الرغم من اعتقادي انه يجب إضافة إلى الشريحتين اللتين ذكرهما أبو لغد شريحة ثالثة هي شريحة الفلسطينيين في الأرض المحتلة) غير أن سياسة الثورة والأمل لم تخل من المعاناة والانتكاسات. ومع ذلك، فإن كثافة الحقبة المعاصرة تستحق اهتماما دقيقا، وإلى ذلك يجب أن انتقل الآن، لينصب تركيزي على نمو وعي سياسي فلسطيني ذاتي موحد بشكل حقيقي، منخرط بشكل دقيق في التاريخ المعاصر، ومتناغم مع التقدم البطيء للمجتمع نحو تقرير المصير.
لا بد من القول إنه عند مناقشة موضوع حساس مثل الوعي الوطني، ينبغي للمرء أن يكون مستعدا لتفضيل الدقة الملموسة على الوضوح المجرد. في الوقت الحالي، الوضع الذي يعيشه الفلسطينيون معقد للغاية، وأي وصف إضافي لما يمثل إحساسهم بالذات، وإحساسهم بالهوية التاريخية، ينبغي أن يأخذ في الاعتبار ما أنتجته هذه الهوية لمصيرهم من جهة ومن جهة أخرى ما كان عليها التعامل معه في الواقع. لكن هذه ليست القضية الوحيدة. هناك تعقيد إضافي يظهر عند مناقشة الوضع المعقد والمربك للشعب الفلسطيني في ظل خلفية من الاضطرابات والارتباكات الشديدة. على سبيل المثال لم تكن حرب لبنان 1975 - 1977 في الواقع مجرد خلفية للصراع اللبناني – السوري- الفلسطيني، كانت الحرب نفسها نموذجا مصغرا للسياسة الدولية ومصالح القوى الكبرى وتاريخ الأقليات في العالم العربي والثورة الاجتماعية والسياسية والتراث المأساوي للاستعمار الغربي والامبريالية في الشرق الأوسط. الأمر الأساس الذي يجب القيام به الآن هو تقديم لمحة موجزة عن هذه الأمور كتمهيد للمسالة المركزية التي أريد تناولها وهي إشكالية البقاء الفلسطيني والتعبير عن الهوية الوطنية الفلسطينية في حقبة ما بعد 1967.
لننظر إلى لبنان أولا، ان أي مؤرخ محنك للشرق الأدنى العربي، سيلحظ على الفور أن ما حدث في لبنان، بوجود الفلسطينيين والسوريين هناك، كان تكرارا لما حدث هناك في عامي 1845 و1860– الموارنة والدروز- وجدوا أنفسهم في مواجهة مريرة.
وكما هو الحال الآن، نجد تورط القوى العظمى فضلا عن الصراع الاجتماعي والسياسي بين الطائفتين على أسس دينية. وينبغي القول انه لم تكن تعرف لا الآن ولا حينذاك انه قام على أسس دينية حصرا، لكنني اعتقد ان التشبيه المفيد بين القرن التاسع عشر والعشرين ينتهي هنا. فمنذ الحرب العالمية الثانية، كانت هناك عدد من التحولات والإضافات الحاسمة إن لم تكن محددة، لما يشعر به المواطن في المنطقة تجاه نفسه وتجاه إحساسه بالانتماء السياسي . أول هذه التحولات هو أن ثمة زيادة كبيرة في المشاعر التي يربطها الناس بدولتهم
القومية. بالطبع ثمة درجات متفاوتة من الشدة في هذا الارتباط بالدولة القومية كما أن هناك درجات وأنواعا متفاوتة من العواطف التي تنشأ عندما يتعرض استقلال أو كيان الدولة للتهديد. ومن المؤكد من منظور آخر أن الدولة وأجهزتها قد اكتسبت سلطة مثيرة للإعجاب منذ الحرب العالمية الثانية، مرة أخرى، تختلف نوعية هذه السلطة من دولة لأخرى ولكن اليوم هناك نوع مختلف تماما من السلطة عن تلك التي كانت تمثلها الإمبراطورية العثمانية على سبيل المثال.
التغيير الثاني الكبير في القرن العشرين يتمثل في الفكر السياسي، هناك احتمال اكبر بكثير ان تُفهم الأسئلة المحلية الصرفة ويتم التعامل معها والتنازع عليها ضمن عموميات عالمية كبيرة . كان هذا واضحا في الطريقة التي خاض بها الصهاينة صراعهم من اجل
فلسطين.
ومن المألوف أيضا، على سبيل المثال، أن يعد المتعصبون الموارنة موقفهم في القرن العشرين تجسيدا لجوهر الحضارة العربية التي تدافع عن نفسها ضد جحافل البرابرة التي تدق أبوابها. بالمثل كان الفلسطينيون منذ عام 1967 يميلون إلى رؤية صراعهم ضمن إطار يشمل فيتنام والجزائر وكوبا وإفريقيا السوداء. هذا التغيير في التركيز يعود جزئيا إلى وعي سياسي عالمي متزايد، تشكل نتيجة لنشر الأفكار حول الحرية والمعرفة وكذلك نتيجة الصراع العالمي ضد الاستعمار والامبريالية بالإضافة إلى ذلك تأثير وسائل الإعلام الجماهيرية التي جذبت انتباه المناطق المختلفة من الكرة الأرضية وكذلك قربت المجموعات الفكرية الأكثر تباعدا بعضها من بعض، أحيانا بشكل غير مقصود وأحيانا بشكل مقصود. وإذا أضفنا الميل للتعميم إلى ميل وسائل الإعلام والعقول لتبسيط دراماتيكية القضايا، فان النتيجة ستكون خطابا سياسيا مبالغا فيه، يضخم ويعظم القضايا والأفعال ولم يكن لأحد أن يكون في منأى عن هذا كله.
من المحتمل دائما أن البشر يرون اختلافاتهم عن بعضهم بعضا كمسائل تفسيرية. إن القول بوجود موقف فرنسي أو بريطاني مميز لشيء ما في القرن التاسع عشر يعني – ولو بشكل غير دقيق- القول بوجود طريقة فرنسية أو بريطانية مميزة للتعامل مع الواقع.
تشمل هذه التصريحات أيضا إدراك وجود مصالح مادية فرنسية أو بريطانية حقيقية كانت تستند إليها المواقف. في الظروف الحالية يتم تقديم تصريحات مماثلة عن الشرق الأوسط وشعوبه ومع ذلك بسبب الواقعتين المتغيرتين اللتين ذكرتهما أصبحت هذه التصريحات تحمل قدرا من المرونة التفسيرية الخطيرة. عندما نتحدث اليوم عن العرب أو اللبنانيين أو اليهود أو الإسرائيليين فسنبدو كأننا نتحدث عن كيانات ثابتة بينما في الواقع نحن نتحدث عن تفسيرات شديدة التقلب. صحيح أنه يمكن الإشارة إلى دول معينة بوضوح ولكن هنا يتعارض التغيير الكبير الثاني في القرن العشرين مع الأول – فإن هذه الدول تقع في مجال سياسي ومفردات سياسية يبدو أن أساسه يتغير باستمرار.
ويبدو أن أساس تأثير هذه الظاهرة في المجال السياسي ومفردات السياسة يتغير باستمرار كما لا يمكن إنكار تأثير هذه الظاهرة في المعاملات والعمليات السياسية. ماذا يعنيه استعمال عبارات توحيدية مثل العرب بعد الغزو السوري للبنان عام 1976؟ ما معنى عبارات مثل الدول العربية الراديكالية؟ ما معنى مطالب مثل تلك التي قدمتها إسرائيل والولايات المتحدة التي تسال عما إذا كان سيعترفون بإسرائيل أو لا؟ خاصة وانه ليس واضحا أية إسرائيل تلك التي يطلب من العرب ان يأخذوها بعين الاعتبار – هل هي إسرائيل 1948 أم إسرائيل 1967 أم إسرائيل التي تقوم بفرض الحصار أو قصف الساحل اللبناني الجنوبي ؟
يبدو لي أنه من الممكن تماما أن يجادل المرء بأن هذه المشكلات كانت سمة منتظمة في الحياة السياسية وأن ما يبدو غريبا في الشرق الأوسط الآن ليس في الواقع غريبا. وردي هو أنه نظرا لأن هناك اهتماما شديدا مؤخرا بضرورة وأهمية الدول والهياكل الحكومية في المنطقة ولأن تعريف الدول نفسه مشوش بشكل محير مع عموميات ذات طموحات شبه كونية فان غرابة الشرق الأوسط تتفاقم. وإذا أضفنا إلى هذه المجموعة من المشكلات الموقع الهيكلي الفريد للفلسطينيين فإن التناقضات تتضاعف أكثر.
واجه الفلسطينيون قبل أي مجموعة محلية أخرى في الشرق الأوسط مسألة القومية العربية، سواء في شكلها الواسع والعام والتفسيري أو في شكلها الأكثر تحديدا والمتمثل في المطالبة بالسيادة . في مواجهة الفلسطينيين مع استعمار فلسطين من قبل الكيان الصهيوني، كان هناك إقبال مزدوج عليهم: 1/ الحاجة إلى ربط مقاومتهم بالصراع العربي بعد العثماني من أجل الاستقلال والسيادة و2/ الحاجة إلى مواجهة الطلب على سيادة يهودية محددة والتي بدت -بعد ذلك أصبحت- تستثنيهم ككل. يواجه الفلسطينيون إلى حد ما والمنطقة التي ينتمون إليها مصائر مشابهة لتلك التي تواجهها أجزاء أخرى من الألم الاستعماري السابق. ومع ذلك كما أشرت في الفصل الأول كان جانب مهم للغاية في تاريخ الشرق الأوسط هو وجود وكالات تفسيرية نشطة وبارزة ناهيك عن أنها كانت مثيرة للجدل - عادة ما تكون متمثلة في حكومات الأقليات- كل منها لم تجرؤ حسب بل في وقت وآخر كافحت (مثل إسرائيل) لفرض رؤيتها الخاصة على العالم الذي هي جزء منه. إضافة هذا العنصر إلى المتغيرات التي ذكرتها في القرن العشرين جنبا إلى جنب الميل الطبيعي للأقليات لجعل القوى الخارجية ترعى جهودهم ، سيمنحنا فكرة أفضل بكثير عما يحدث الآن في الشرق الأوسط. لقد احتفظت هذه الأقليات بوعيها الفريد الذي وصفه البرت حوراني على النحو الآتي:
"""بوجه عام كانت هذه المجموعات قد شكلت مجتمعات مغلقة. كانت كل واحدة منها "عالما" كافيا لأعضائها وتطلب ولاءهم المطلق. تلامست العوالم ولكنها لم تمتزج مع بعضها بعضا. كل منها نظر إلى الآخر بشك وحتى كراهية. كانت جميعها تقريبا راكدة وغير متغيرة ومحدودة لكن العالم السني على الرغم من تمزقه بكل أنواع الانقسامات الداخلية ، كان له شيء عالمي وهو الثقة بالنفس والإحساس بالمسؤولية مما يفتقر إليه الآخرون. كانت جميعها مهمشة مغلقة على السلطة والقرار
التاريخي".
على الرغم من أن الأقليات في الشرق الأوسط كانت تبدو لأعضائها صغيرة ومتعددة، فإنها تميل إلى التصرف بطرق تجعلها أصغر. الأقليات تفصل نفسها عن محيطها البشري، وداخليا تنقسم دائما تقريبا. لقد كان هذا حاصلا في إسرائيل حيث يقسم اليهود الشرقيون والأوروبيون ( دون التطرق إلى العرب) البلاد بشكل ملحوظ. المسيحيون في الشرق الأوسط، الذين يطلق عليهم عادة (المسيحيون الشرقيون أو المستشرقون) حتى في دول مثل لبنان، لم يكونوا مجموعة غير مرئية، يبدو أنهم يهتمون بما يميزهم عن كل طائفة على حدة وبنفس القدر من التعصب والمهارة كما يهتمون بشقائهم الكبير مع الإسلام.
بدا ان الحريق اللبناني قد وضع المسلمين ضد المسيحيين لكن ما تم إخفاؤه هو أن الموارنة وهم نوع خاص من المسيحية الشرقية كانوا في بداية الحرب ضد المسلمين السنة الذين لم يكونوا في تحالف مع المسلمين الشيعة ولم تشمل المعركة المارونية العنيفة على الإطلاق المجتمعات الارثودكسية أو البروتستانتية أو الارمنية أو الكاثوليكية اليونانية بنفس القدر من التوافق كما كان متوقعا. ثم أيضا كان هناك الدور النشط لإسرائيل في تحفيز الموارنة وتزويدهم بالأسلحة والإمدادات والدعم السياسي. لقد كانت السياسة الإسرائيلية في لبنان تخضع جزئيا ليس للتعاطف مع المسيحيين ولكن لأسباب مشتركة مع اليمين المسيحي الذي يطمح إلى تدمير الفلسطينيين. حتى قبل الحرب العالمية الثانية ( في مؤتمر مجلس العالم لصعاليك الصهيون من 29 يوليو إلى 7 أغسطس 1937 ) تحدث ديفيد بن غوريون عن كيفية"" تكوين جيران في لبنان داعمين سياسيا للدولة اليهودية. لبنان هو الحليف الطبيعي لأرض إسرائيل اليهودية. يواجه الشعب المسيحي في لبنان مصيرا مشابها لمصير الشعب
اليهودي"".
اعتقد من الواجب القول إن الأقليات المتشددة في الشرق الأوسط، كانت تقريبا معتدية دائما وبالضد مما اسماه حوراني" العالمية والثقة بالنفس والإحساس بالمسؤولية" التي لدى الإسلام السني أي الإسلام السائد. خذ تاريخ العلاقات بين المسلمين والمسيحيين في المنطقة كمثال.يتم تناول هذا الموضوع من قبل نورمان دانيال في كتابه( الإسلام والغرب: تشكيل صورة) بالنسبة إلى مسيحي شرقي معاصر أو مؤرخ عربي إسرائيلي يعتقد ان الإسلام أو عقلية العرب هي عدوه، فان كتاب دانيال غالبا ما يكون مصدرا لعدم الارتياح الشديد. ما يظهره هو أن المسيحيين السوريين من بينهم القديس يوحنا الدمشقي( حوالي 675 - 749) والفيلسوف الكندي في القرن التاسع كانوا أول من قدم للمسيحية الأوروبية المواد اللاهوتية والدوغمائية( عادة ما تكون هجومية) التي استخدمتها لمهاجمة الإسلام ونبيه. هذه المواد وجدت طريقها لاحقا إلى التيار الرئيس للثقافة الغربية حيث لا تزال موجودة حتى
اليوم.