محمد طهمازي
يتحرّك الفنان الملوّن بين ذاكرة مطلقة للّون يسعى لإدراكها في عالم نوراني بعيد، وهو مسعى محكوم عليه بالإحباط كون الهدف يقع ضمن منطقة غير قابلة للوصول، وبين ذاكرة الألوان الجمعيّة التي تملأ مساحة الإدراك اللوني المتاح والفهم المتوارث والدلالات الزمكانيّة للّون. وهو هنا يحاول الخروج بحالة بصريَّة إبداعيَّة محفّزة، في رأيي، أكثر منها إعجازيَّة.
لو تأمّلنا بعين الباحث المدقق في الأثر الذي تركه فائق حسن بمن استظل تحت خيمته، وبعيداً عن السرد الرومانسي والحماسي المعهود لكتبة الفن، لوجدناه أثراً في منتهى السلبيَّة..
لقد عايشت وتتبعت السيرة الفنيّة لنتاجات مختلف الأجيال التي تتلمذت على يد الفنان الملوّن فائق حسن ووجدتها تعيش نوعاً متفاوتاً من الحركة والتفاعل اللوني خلال سِنِي العمر الفني لفائق حسن الذي قضاه ما بين عالم الرسم وعالم التدريس فمنهم من تبجح لغاية داخليّة بلمسة هنا ولون هناك، ومنهم من انشغل بالتقليد السطحي ومنهم من عمل على بحث لوني في سبيل تحقيق هدف هلامي ومنهم من اتخذ حالة جاهزة من العداء لأستاذه. الغريب في الأمر أنَّ هؤلاء انطفأت روحهم اللونيَّة بكل مستوياتها بموت فائق حسن ولم يستمر على خطه منهم سوى الأخير الذي عاند وتمادى في كراهيته.
ثم خطأ، ولنسمه على سبيل الافتراض بالخلل، في أساس التعلم والتأثر والاتباع لدى كل جيل من المتأثرين. لقد اتخذ هؤلاء من فائق حسن حالة من الهوس كما العلاقة بين الفراش والضوء قد تصل لمستوى العبادة الفنيّة، كما أسميها، عبادة تعمي بصيرة المتبع عن البحث في مفاهيم فائق اللونيَّة وتجربته التي تعد الأطول بين الفنانين التشكيليين، الأمر الذي جعلهم يسقطون في ذلك الفخ الذي حين حاول البعض الخروج منه وخرج لكنه أضاع الطريق أو لم يجد البديل الذي يتبعه.
إنَّ الأمر مشابه بشكل كبير للعلاقة بين صاحب الفكرة الدينيّة أو السياسيّة الايديولوجيّة أو الاقتصاديّة حيث يترك أتباعه رؤيته وروح حركته ويعبدونه مثل أي صنم، وحين يموت يتبعثرون ضائعين في كل الاتجاهات والدروب. وأنا هنا لا أقصد أن من الواجب أن يتحول المتأثرون إلى نسخ عن المؤثر ولا أن يكملوا مسيرته بل العكس كان يجب أن يخلق تأثير فائق حسن لديهم شخصيات فنيَّة لا صدى يتردّد وعبادة تتبدّد.. ومن لديه شكّ في قولي لينظر بعينٍ فاحصةٍ إلى نتاجات كل هؤلاء في حياة فائق حسن الفنيّة ونتاجاتهم بعد وفاته وليقارن بينها ليكتشف أنّهم، بكل بساطة، انطفأوا جميعاً عندما انطفأت حياة فائق حسن وراوح بعضهم في مكانه مثل دوران المروحة بعد قطع التيار الكهربائي عنها قبل أن تتوقف.
قد يقول قائلٌ أن كل هؤلاء المتأثرين كانوا تحت وطأة تأثير فائق حسن وما إن غادر عالمنا حتى استفاقوا من تلك الغيبوبة وانتقل كل منهم إلى خط فني آخر وكأنّي ببعضهم يقول بعبارة أو بأخرى أن فائق حسن بأسلوبه الاحترافي كان يجسّد مرحلة متخلّفة في الفن التشكيلي، ويتجاهل مؤيدو هذا الرأي العدد الكبير الذي يزداد يوما بعد يوم من الفنانين في العالم ممن ينتهجون خطوطاً مشابهة لخط فائق حسن والذين يلقون اهتماماً من نقاد الفن وقاعات العرض وشغفاً من جامعي الأعمال الفنيَّة.
أعود إلى تعبير التأثير السلبي لفائق حسن في مساحته الغالبة وهو تأثير من دون شكّ لم يكن مقصوداً من فائق حسن نفسه وإنّما كان من صناعة المرحلة التي جاء فيها فائق حسن كملوّن بارع لم تنجب الحالة الفنيَّة العراقيَّة مثله ولاعب بفرشاة الرسم بشكل احترافي لم ينافسه في العراق أيّ فنان من جيله ولا ممن سبقوه وطول فترة حياته؛ وهذا ما جعله بؤرة التأثير والتركيز بشكل مفرط وهو أمر لم يكن في حسبان فائق نفسه وهو في غمرة إنتاجه الفني وعمله التدريسي كما لم يلتفت إليه أحد من المهتمين وهم في حالة من الكوما البحثيَّة حتى يومنا هذا.
كان ثمة أجيال تبحث عن أبٍ روحيٍّ لفن الرسم في العراق وقد وجدت ضالتها في فائق حسن لكنها لخلل أعود للتأكيد عليه أخذت إحساس الأبوة الفنيّة في خطين الأول هو العبادة التي تمسخ هوية المتأثر والخط الثاني هو من اتّخذ من فائق حسن هدفاً لكراهية الأب لأسباب مختلفة ومتناقضة مع بعضها.
يقول الفيلسوف الاسكتلندي ديفيد هيوم: "إنَّ الجمال ليسَ خاصيّة في ذات الأشياء، بل في العقل الذي يتأملها".. كذلك لم تكن المشكلة في فائق حسن بل في المتأثرين به باختلاف نوازعهم ومناشئ تكون وعيهم وحاجاتهم النفسيَّة ونوع استقبالهم النفسي لأسلوب فائق حسن اللوني والتقني ورؤيته الفنيَّة.