النصّ المسرحيّ بين نقيضين

ثقافة 2024/10/29
...

  عباس منعثر

رغم قدم مسألة الغموض والإبهامِ في الأدب، فإن الموقف تجاههما لم يُحسم بشكلٍ قاطع بعد. مع تغير الأذواق الأدبيّة والثقافيّة عبرَ الزمن، حدث تفضيل للغموض تارة وللمباشرة تارة أخرى؛ لكن يبقى التأرجُحُ بين اليقين والشك هو السمة السائدة في الحكم على الاختيار الأمثل.

الغموضُ تشابُكٌ للمعاني والتفاصيلِ بطريقةٍ تجعلُ من الصعبِ تحديدَ المغزى بدقّة. إنَّها تجربةٌ إنسانيّةٌ معقَّدة، قد تكونُ متعمَّدةً كما في الأدبِ والفنّ، أو ناتجةً عن شحّةِ المعلوماتِ أو التباسٍ الموقف. أما المباشرةُ فهي مسارٌ مستقيمٌ بين التعبيرِ والقصدِ، خالٍ من التلميحاتِ أو الالتفافِ في محاولةٍ لاستثمارِ الوقتِ وتجنُّبِ الإطنابِ البلاغيّ أو التعالي على المعنى.

تخيَّلْ أنَّكَ تقفُ أمامَ مرآتينِ متقابلتين. الأولى تعكسُ صورتكَ بوضوح، كما تفعلُ المرايا التقليديّة. سترى وجهَكَ بجلاءٍ، وربما يدفعُكَ ذلكَ إلى تعديلِ هندامِكَ أو تسريحةِ شعرِكَ لتبدو في أفضلِ حالاتِك. قد تُصدمُ بقوةٍ بسبب مرورِ الزمنِ وبروزِ التجاعيد؛ لكن ما أن تكتملَ الاستثارةُ، حتى يفقدَ النظرُ في المرآةِ إغراءَه، مع أنَّ الأثرَ النفسيَّ يبقى برفقتكَ مدّةً قد تطولُ مخلّفاً شواهدَ محفورةً في مخيلتِك.

الآن، لنتخيَّل أن الشخصَ نفسَهُ ينظرُ في المرآةِ الثانيةِ من الجهةِ المقابلة. عدمُ وضوحِها يُعطي صورتَهُ أشكالاً متعددةً ومتغيرة: يتناوبُ شكلهُ بينَ التحدُّبِ والتقعُّرِ، بين الاستطالةِ والتكوّرِ، وقد يتلوّى جسدُهُ بالكاملِ ليصبحَ بلا حدودٍ ولا تضاريس. هذا التنوعُ البصريُّ سيجعلهُ يُمارسُ فعلَ التخمينِ باستمرار، محاولاً تفسيرَ كلِّ شكلٍ وتحليلَ معناه. وبتكاثرِ الأشكال، يبدأُ بربطِ بعضِها ببعضٍ، في اجتهادٍ منهُ كي يستنتجَ نظاماً داخليّاً أو ترتيباً منطقيّاً أو نمطاً يقودُ إلى فهمِ المقصودِ من اللعبةِ المخاتلة. سيظلُّ هذا السعيُ مستمراً ما دامت المرآةُ قادرةً على حفزِ الانتباهِ وإشعالِ الحماسةِ لمعرفةِ المزيد. كلّما تضاعفت التفاصيلُ الجذابةُ، زادَ التركيزُ وتعمّقَ الانخراط، فيتراكمُ الغموضُ رافداً التوترَ الداخليَّ بالاحتمالاتِ المُلغّزة.

الغموض يُثيرُ التساؤلات عبرَ تعليقِ الحكمِ وتأجيلِ الوصولِ إلى الحقيقة، باستدراجِ العقلِ نحو افتضاضِ الأسرارِ المخبَّأة، فيخلقُ فضاءً رحباً للتأويل، ويدفعُ للتفكيرِ في التلميحاتِ الدينيّة والسياسيّة والاجتماعيّة المضمرة. يبقى القارئُ في حالةِ تأهُّبٍ بسببِ المستجداتِ، يجمعُ الخيوطَ، التي تنفلتُ من بينِ يديه، ويحاولُ وصلَها ببعضِها. قد يجدُ القارئُ نفسَهُ خاليَ الوفاضِ منها في لحظةٍ ما؛ لكنَّه لن يتوقّفَ، فالفعلُ فاتنٌ بحدِّ ذاتِهِ وطيّعٌ للمواظبةِ وكأنَّه مستدرَجٌ في قصةٍ بوليسيّةٍ متشعّبة. 

في مسرحيةِ "في انتظار غودو" لصموئيل بيكيت، تُوظَّفُ الرمزيّةُ في تناولِ كينونةِ غودو، الشخصيةِ المحوريّةِ التي بحضورِها يتغيرُ كلُّ شيء. تظلُّ الشخصياتُ عالقةً في حالةِ انتظارٍ مستمرةٍ؛ إلا أنَّ خيبةَ الأملِ ترافقُ القارئَ حين لا يأتي غودو مطلقاً، مما يدفعُهُ إلى إعادةِ القراءةِ، ليس بحثاً عن هويتِهِ الحقيقيّة هذه المرة.؛ بل سيُفتشُ عن معنى أعمقَ حولَ الوجودِ وهدفهِ، والمطلقِ وكينونتهِ، والوعدِ الخلاصيّ وجدواه، وعن جدليّةِ التواصلِ الإنسانيّ أثناء الانتظارِ السلبي. في الغموضِ، يزدادُ النصُّ اتساعاً مع كلِّ قراءةٍ متيحاً الفرصةَ للحريّةِ في المشاركةِ وفي خلقِ المعنى.

من جهةٍ أخرى، تنهمكُ - المباشرةُ - في تقديمِ صورةٍ واقعيةٍ عن الأحداثِ والشخصياتِ في فضاءِ النصِّ المسرحي. هذهِ الصورةُ تتناسبُ، عكسياً، مع طبيعةِ الحياةِ المعاصرةِ وتعقيداتِها. فبسببِ الخوفِ من المجهولِ والحاجةِ الى الطمأنينة، يميلُ الناسُ إلى البحثِ عن النظام والانضباط. وهروباً مما يعانونَهُ من فوضى وضياعٍ في ما يخصُّ الأجوبةَ عن أسئلتِهم الكبرى، يحتاجونَ لبصيصٍ من الضوء. عندما يهيمنُ التفسيرُ والإبانةُ، يتأسسُ الموقفُ على القناعةِ والمواساةِ، مما يتيحُ للفردِ اكتشافَ ذاتهِ من خلالِ الفنّ. وبلا رتوشٍ، تلتقطُ المباشرةُ تلك الجوانبَ الصادمةَ لعرضِها بشكلٍ حيّ، حيثُ تنقلُ التجربةَ بسرعةٍ أكبرَ كشكلٍ قويّ وغيرِ مشوَّشٍ من الخطاب.

في "مسرحِ العشرِ دقائق"، على سبيلِ المثال، لا تختلفُ الأحداثُ عمّا تمتلئُ به الأزقةُ أو البيوتُ المتكدّسةُ في العالمِ ما بعد الحداثيّ. فالشخصياتُ، من خلالِ صراحتِها المطلقة، حقيقيّةٌ أكثرَ مما يحتاجهُ الفنّ ويفترضُهُ الخيال. لغتُها وسلوكياتُها تأتي من الفظاظةِ وليسَ من الجمالياتِ الكلاسيكيّةِ الوقورة. لا تُعيرُ الشخصياتُ بالاً لما يراهُ أو يفترضهُ الجمهورُ، لأنّها متحرّرةٌ تماماً من لياقةِ الأدبِ ولا تخضعُ للرقابةِ، فيكونُ لها تأثيرٌ عاجل. مهما كانت فظيعةً أو صادمة، ومن دون الحاجةِ إلى التخفي بالأقنعةِ الفنيّة، تتصرّفُ المباشرةُ كما لو أنّها تحدثُ في خلوٍ من الزمانِ والمكان. بصرفِ النظرِ عن أفضليّةِ الغموضِ أو المباشرة، يُحسِنُ النصُّ المسرحيُّ المتقنُ لعبةَ التوازنِ في إنالةِ القارئِ ما يكفي ومنعِهِ عمّا لا ينبغي. الوضوحُ دعوةٌ مشاعيةٌ على بابِ التواصل؛ والغموضُ كلمةٌ سحريّةٌ عالقةٌ بين السطور. يرتبطُ الوضوحُ بالعقل، ويعتمدُ في تسلسلِهِ على المنطق، وغايتُهُ توطيدُ الاستقرار. يثيرُ الغموضُ العاطفةَ، ويستثيرُ المشاعرَ المبهمةَ. وبينما يسعى الوضوحُ إلى التوجيهِ والسيطرة؛ يفتحُ الغموضُ المجالَ للتساؤلات. باجتماعِهما، يلتقي الفهمُ بالدّهشة. 

هذا المزجُ المدروسُ يصنعُ تجربةً مسرحيةً متكاملةً من التأني والتعجّلِ، والحيرةِ والوثوقِ، والتعقيدِ والتبسيطِ، والتعميةِ والإبصارِ، والإخفاءِ والإظهارِ، والعمى والبصيرةِ والظلمةِ والنورِ معاً. بناءً عليه، يتركُ النصُّ الغامضُ فجواتٍ تأويليّةً لا تنضب، ويحفرُ النصُّ المباشرُ ندوباً غائرة لا تُشفى. في امتزاجِ التوليفةِ، يصبحُ النصُّ- الغامضُ دون إبهام، والواضحُ دون كشف- إزميلاً يقودُنا للتنقيبِ، بالبصرِ أو باللمسِ، في عالمِ المسرحيةِ الرّمادي.