المهام الاجتماعيَّة للأدب

ثقافة 2024/10/29
...

  مهدي القريشي 


لم تقتصر مهمات الأدب في فكِ شفرات وخبايا وتحديات الزمن في المحيط المحلي فحسب، بل تتعدى ذلك إلى فهم وفك مغاليق التحديات الكبرى التي تواجه المجتمعات الساكنة والمتمرّدة على حدٍّ سواء. ومن خلاله أيضاً تستطيع أن تشعرنا وكأنّنا نعيش في كلِّ العصور السالفة والحالية وقد تترجم لنا ما سيحدث في المستقبل من إرهاصات وتحولات كبرى ليس مما تطرحه الرواية أو السرد بصورة خاصة، بل وتتجاوز مهمات كشف المستور في الشعر أو النثر الشعري وحتى النقد والسيرة الذاتية وغيرها من أبواب الأدب الأخرى. إذن هو انعكاسٌ لمظاهر الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة وما تعتمل في النفس البشريّة وما تحمله من حمولات نفسيّة، فكريّة، وإنسانيّة وغيرها رغم تدخل الكاتب من إضافات منفلتة من مخيلتهِ، والتي قد تخرج عن مضمار الحياة الاجتماعيّة المتداولة أحيانا، لتضيف دفعًا أكثر لمسك القارئ لإكمال مشواره في القراءة. ومن ثمَّ ربط القارئ بالنص وعدم الفكاك منه ونقله إلى عالم موازٍ للعالم الواقعي، عالم فنتازي وخيالي ممزوج بالواقع الاجتماعي وما يسمى بالواقعيّة السحريّة، وهي تقنية تحويل الخيال إلى واقع وخير ممثل لهذا التقنية هو غابريل ماركيز كما جاء في روايته "مئة عام من العزلة"، وبورخس. إذن هي خلطة تدخل الواقعية الاجتماعية في احد مكوناتها الأساسية.  ولكي لا نبتعد كثيراً عن مضمون العنوان الرئيس فإنّ الإضافات الفنتازية والمتمثلة في الخرافة والأسطورة التي يقدمها الكاتب إلى قراءة كطبق من السحريّة والغرائبيّة، فإن ما قام به الحكام الدكتاتوريون المستبدون من أعمال وحشيّة، مثل تذويب منافسيهم السياسيين بـ "التيزاب" أو فرمهم وتقديمهم كطعام للأسماك أو تقديمهم مشويات كوجبات شهيَّة لضيوفهم أفاقت في تصورنا وتصور العقلاء مما خطر بخيال الكتاب مثل ولادة قرد في عائلة أنسيّة بذيل خنزير، أو الخيميائي الذي يحلم بكنز في اهرامات مصر أو الذي استيقظ فوجد نفسه بوقاً وفي مكان آخر وجد نفسه حشرة.

يوظف الأديب خياله ومداركه الحسيَّة بخلق أماكن وأزمنة لا تخطر على بال، فيرتفع عنده هرمون الفضول لإضافة معارف أكثر عن هذه الأماكن وتلك الشخصيات لإغناء الذوق العام حتى تصل الرغبة بالقارئ أن يتمثل المكان ويلبس الشخصية. وهذا ما يتمناه السارد والوصول إلى إتقان اللعبة بربط خيوطها في أصابعه لبث الوهم اللذيذ الذي يخدم الشخصية ويحقق متعة للقارئ بالوقت نفسه، بذلك يكون السارد قد أوفى ما بذمته في كشف المستور في سلوكيات المجتمع، ومن ثمَّ معرفة عامة لسيكولوجية المجتمع. 

إنَّ مهام الأدب الاجتماعيّة لا تقل أهمية وخطورة من مهامه الثقافيَّة، وهذا ما يلخصه الكاتب يوري ناغيبين بقوله "الادب - ليس ترفيها، ولا تسلية وتمضية وقت، ولا مصدراً للمعلومات، ولا ارشادات ووعظ، ولا مجموعة من النعوت الجميلة – إنه حديث القلب الى القلب"* ولم تقف مهام الادب الاجتماعية عند الدرس الثقافي، بل امتدت الى الغور في النفس البشري ومعرفة مكنوناتها وقد استفاد من هذه الخاصية في معرفة سلوك المجرمين، ومن ثم كيفية معالجتهم من الأمراض الاجتماعية بالاستفادة من سلوكيات أبطال بعض الروايات من قبل محققين للوصول الى أهدافهم في إصلاح المجتمع.  وتلخص الكاتبة والشاعرة والأكاديمية الروسية نتاليا مار تيشينا في دراستها ترجمة الأستاذ تحسين رزاق عزيز مهام الأدب في المجتمع  بـ (١١) وظيفة، الوظيفة المعرفية/ التواصل/ التنظيمية/ التقييمية/ الارشادية/ السيميائية/ النشاط، الفعل/ إعادة الإبداع/ التعويضية/ الترفيهية/ الابداع البشري، الانساني والوظيفة الاعلامية، وظيفة النقل أي نقل خبرة الأجيال السابقة، وهذه الوظيفة تتيح للناس أن يتبادلوا المعرفة والمهارات، ولنا في ما قاله جورج برنارد شو في هذا الأمر "لو كان لديك تفاحة ولدي تفاحة وتبادلناها سيبقى لكل منا تفاحة واحدة، ولكن لو كانت لديك فكرة ولديَّ فكرة وتبادلناهما فسيتغير الموقف كل واحد منّا يصبح على الفور أكثر ثراء، اي يصبح صاحب فكرتين"**

(*و** الثقافة الاجنبية ع١/ ٢٠٢٣)