العمود الومضة.. تعريفات صحيحة وتطبيقات ملتبسة

ثقافة 2024/10/30
...

عادل الصويري

ثمة آراء تذهب إلى أن القصيدة الومضة أسلوب تعبيري ينسجم مع كافة أشكال الكتابة الشعرية التي يمكن أن تأتي مكثَّفة ومختزلة لكل تناقضات الواقع المعاصر وإرهاصاته على الصعيد النفسي والفكري.
وحين تخلص هذه الآراء إلى إنسجام القصيدة الومضة مع كافة الأشكال الشعرية؛ فهذا يعني أن القصيدة الومضة يمكن أن تكتب بالشكل العمودي التقليدي. فهل سينجح هذا الشكل في استيعاب اشتراطات الومضة؟
في العراق صدر كتابان شعريان في العمود الومضة لشاعرين وناقدين عراقيين هما: الدكتور أمجد حميد في مجموعته (......)، والدكتور مشتاق عباس معن في مجموعته (وطن بلون الجراح) والذي عرَّف القصيدة الومضة بأنَّها : “قصيدة مكثَّفة تقلُّ أبياتها عن السبعة، قيمتها الإبداعية قيمة القصيدة المتكاملة”. والمجموعتان اعتمدتا على نظام الأبيات التي تقل عن سبعة كما جاء في بيان الدكتور مشتاق عباس معن، فجاءت القصائد من ثلاثة إلى أربعة أبيات. إلا أن تلك القصائد كانت أقرب إلى (المقطّعة الشعرية) منها إلى الومضة. وأعتقد أن الشاعرين لم يخرجا كثيراً على المقطعات الشعرية التي يزخر بها تراث الشعر العربي حين كتب الشعراء وعبر أزمنة مختلفة بضعة أبيات.
وحتى لو وجدنا تشابهاً شكلياً بين المقطعّة الشعرية والومضة؛ فإننا لا نستطيع أن نجد أشياء جوهرية يختلف بها الشكلان عن بعضهما، والغرضية من أهم هذه الاختلافات.
فالمقطعات الشعرية في كل الأزمنة  لم تغادر النسق الغرضي في الكتابة، فهناك مقطعات تُكتب في مديح هذا الزعيم أو ذاك الملك، وأخرى في الهجاء، وقد تطرق أبواب الحكمة والتوجيهات الأخلاقية، وغيرها من المواضيع التي لا تقبل بها القصيدة الومضة، إن لم نقل إنها تكفر بها أصلاً.
ومن الأمثلة على الاختلاف الجوهري بين المقطعة الشعرية والقصيدة الومضة بيت الحطيئة الشهير الذي قيل عنه إنه “أهجى بيت عرفته العرب” والذي قاله للزبرقان بن بدر: “دَعِ المكارمَ لا ترحلْ لِبُغْيتِها/ واقعد فإنَّكَ أنتَ الطاعمُ الكاسي” .
صحيح أن هذا البيت فيه الاختصار لكن ليس لنا أن نعدّه من الومضة؛ لغرضيته على الأقل. هذه الغرضية حضرت بنسب متفاوتة في مجموعة (....) للشاعر الدكتور أمجد حميد في العمود الومضة، وقد بدأ بكتابة مشروعه هذا منتصف تسعينات القرن الماضي. وعلى الرغم من اجتهاده في تكثيف واختزال أبيات قصائده؛ إلا أنه لم يستطع الخروج كلياً من شرنقة المقطعة الشعرية، إذ نقرأ له من كتابه مثلاً : “مَهْلاً عراقَ النازفينَ نفوسَهم/ أيُّ النخيلِ عن الرياحِ بعيدُ/ نسجت خيوط الصبرِ عينكَ في المدى/ فكأنَّ زَحْفَ حروفِها تجويدُ”.
في هذين البيتين لا نجد سمات الومضة باشتراطاتها الحداثية التي تعتمد النهاية الصادمة مثلاً، بقدر ما نجد غرضاً خطابياً جاء في سياق شعري وعاطفي لمخاطبة الوطن. بل يمكن الجزم أن هذين البيتين يمكن أن تُضافَ أبيات أخرى بعدها، فتكون قصيدة مطوَّلة.
أعتقد أن النص التفعيلي القصير والمكثف، والنص النثري بذات الاشتراطات أقرب لأن يكون ومضة، من النص المكتوب بنظام الشطرين، حتى إن قلَّت الأبيات عن سبعة؛ لأنَّ الاسترسال الإيقاعي في قصيدة الشطرين يغري بتعزيز الفكرة، فتتوالد منها أفكار أخرى.
ثم اننا لو عدنا حتى إلى المطوَّلات الشعرية الكلاسيكية لأمكننا استخلاص بعض الأبيات القليلة منها التي يمكن أن نطلق عليها تسمية الومضة. لكن هل هي ومضة فعلاً؟ قطعاً لا؛ لأنَّ هذه الأبيات المكثفة جاءت في سياق قصيدة طويلة لها موضوعُها ومناخُها. وما التكثيف والإيحاء الذي رأيناه في بعض الأبيات القليلة إلا جزء من متطلبات القصيدة التي لم تصل لنهايتها حتى مع عبورها الأربعين أو الخمسين بيتاً، وبالتالي أصبحت اشتراطات الومضة في هذه الأبيات القليلة جندياً يخدمُ القصيدة المطوَّلة، والومضة كيان قائم بحد ذاته.
فلو أخذنا مثلاً قصيدة (هجرة القرار) للشاعر الراحل (عبد الأمير الحصري) لوجدنا فيها بيتاً من أبياتها السبعة والعشرين يقول فيه الشاعر: “إنَّني أسمعُ ارتِطامِيَ في القاعِ خلوداً.. فأينَ منكَ ارتطامي” .
لو تأمَّلنا هذا البيت الاستفهامي العجيب؛ سنجد أن أكثر اشتراطات قصيدة الومضة موجودة فيه، من صورة بصرية، وتكثيف ودلالات مجازية، وإيحاءات تقترب من جدلية الحضور والغياب، لكن البيت جاء على صعيد الموضوع الكلي للقصيدة بصيغة المخاطَب، فالشاعر يُخاطب وطنه بهذا البيت، وهنا تذهب كل اشتراطات فن الومضة أدراج الرياح؛ لأنها خدمت قصدية مباشرة تتعلق بخطاب الشاعر مع وطنه. ثم أن البيت نفسه أتبعه الشاعر بثمانية أبيات قبل أن يُنهي قصيدته، وهذا ما يؤكد فرضية الإغراء الإيقاعي بالاسترسال وتعزيز الفكرة.
النموذج التطبيقي الذي اخترناه من قصيدة الحصري، ربما يُحيلُنا مرة أخرى إلى جدل المصطلحات، فهناك قصيدة الومضة وهناك القصيدة الومضة، وثمة فرق بينهما ترصده الدكتورة سمر الديوب في بحث لها، إذ تقول: “يحيل مصطلح قصيدة الومضة على وجود الومضة في القصيدة، أما مصطلح القصيدة الومضة فيعني أن القصيدة بأكملها ومضة. ولعل التسمية الثانية أقوى في الدلالة على حضور الومضة في القصيدة، وعلى عدّ هذه القصيدة قصيدة رؤيا، تقول أكثر مما تشتمل على  مفردات، وتعبّر عن  رؤية  سوداوية  في  أغلب الأحيان” .
وبهذه الرؤية يتبين لنا أن بيت الحصري ينتمي إلى قصيدة الومضة حيث حلت الومضة باشتراطاتها داخل القصيدة، ولم يكن البيت كل القصيدة فنعتبره من (القصيدة الومضة)، مما يعزز التباس التطبيقات رغم صحة التنظيرات لها وجدّيتِها.