الضفادع.. رمزيَّة القوة والهجاء
أثير الهاشمي
تتضمن القصيدة في كل الأزمنة تجليات مختلفة في الموضوع، ومحاولة اختيار الكلمات المناسبة بحسب البيئة، فضلا عن المعجم اللغوي الموظف، لكن التغيير يحدث في طريقة التوظيف والأداء، عندها سيختلف النص في الرمزية من شاعر إلى آخر.
سنتحدث عن توظيف رمزية الضفادع في النصّ، والضفدع هو كائن صغير معروف لدى المجتمعات في الأمكنة التي يعيش بها، وبعض خصائصه التي يتميز بها، فهو حيوان صغير يعيش في المستنقعات أو بالقرب من الأنهار أو البحيرات، يحاول التكيف في البيئة التي يعيش فيها، فضلاً عن تميزه في اللون والصوت وطريقة حركته.
وظّف الكُتّاب والشعراء رمزية الضفادع في نصوصهم الأدبية، ومن تلك النصوص، مسرحية (الضفادع) للكاتب أريستوفانيس، ورواية (الضفادع) للكاتب الصيني مويان.
تُجسّد رمزية الضفادع في تشكيلات عدّة، منها ما يقع في رمزية النقد السياسي، أو الهجاء، وهذا ما يُوظّف في الشعر أو السرد أو المسرح، فيوصف بصورة كائن "سيّئ"، من خلال تشبيه الآخر به، ويُكتب على وفق الأنسنة في قصص الأطفال، أي تحويله إلى كائن أشبه بالإنسان، يتصرّف، ويتحدث، ويتعامل وكأنه إنسان، هكذا يرسمه الكاتب في قصص الأطفال، فيوصف بصورة كائن "إيجابي"، كرواية "الضفدع الأمير" للكاتبة الأميركية أي دي بيكر، ومسرحية "الضفدع الصغير والقمر" للكاتب العراقي طلال حسن، فضلاً عن نصوص ومسرحيات وقصص أخرى.
حاولنا تتبع النصوص التي وظّفت هذا الكائن؛ لغايات مختلفة، ورمزيات متعددة، إذ اعتنى كلّ شاعر برؤية ذاتية سعَى من خلالها إلى تشكيل نصّه؛ لتحقيق المغزى المُراد.
ومن تلك النصوص التي ضُمنت فيها رمزية الضفدع، نصّ للشاعر عنترة بن شداد، إذ يقول: "وَتَظَلُّ عَبلَةُ في الخُدورِ تَجُرُّها/ وَأَظَلُّ في حَلَقِ الحَديدِ المُبهَمِ/ يا عَبلَ لَو أَبصَرتِني لَرَأَيتِني/ في الحَربِ أُقدِمُ كَالهِزَبرِ الضَيغَمِ/ وَصِغارُها مِثلُ الدَبى وَكِبارُها/ مِثلُ الضَفادِعِ في غَديرٍ مُقحَمِ/ يَدعونَ عَنتَرَ وَالدُروعُ كَأَنَّها/ حَدَقُ الضَفادِعِ في غَديرٍ أَدهَمِ".
يحاول الشاعر هنا إبداء رؤية ذاتية، تمتزج بين الغزل، وخطابه الصريح عن "عبلة" من جهة، وبين الفخر بنفسهِ، من جهة أخرى، إذ يحاول الشاعر أن يضع نفسه في الحرب مقابلاً "للهزبر الضيغم"، وهي دلالة للقوة والفخر، ويضع الآخر هاجياً لهم، بوصفهم مثل "الدَبى" و"الضفادع" في غدير مقحم بهم.
إنّ الرمزية البلاغية هنا التي مزجت بين غرضين من جهة أخرى، وبين دلالتين متناقضتين من جهة أخرى، جعلت من الرمزية تتضح حتى في اختفاء بعض الجزئيات، لكن الأهم من ذلك أنه اختار رمزين مختلفين في الغاية الشعرية، الأول رمز الفخر بالذات عن طريق التشبيه بالهزبر الضيغم الذي يرمز للقوة، والثاني رمز الهجاء، عن طريق التشبيه بالضفادع، التي تُشير للدنو أو الضعف.
ومثل ذلك المعنى ما خطّه الشاعر ذو الرمة، إذ يقول: "عَيناً مُطَحلَبَةَ الأَرجاءِ طامِيَةً/ فيها الضَفادِعُ وَالحيتانُ تَصطَخِبُ/ يَستَلُّها جَدوَلٌ كَالسَيفِ مُنَصلِتٌ/ بَينَ الأَشاءِ تَسامى حَولَهُ العُسُبُ".
يضع ذو الرمة منهجين مختلفين في ساحة الوغى، الأول نقيض الآخر، فالأول في الذم للآخر في ضعفه أو صغر حجمه الحقيقي المتمثل بــ"الضفادع"، وهو هجاء واضح في التشبيه، والثاني يرمز للفخر بنفسهِ، وبقومهِ، من خلال القوة وكبر الحجم، تتمثل بــ"الحيتان" وهو مدح بصورة بيّنة.
وللشاعر الخبز آرزي نصّ في إحدى قصائده، يوظّف هذا الكائن الصغير من خلال عنصر التشبيه، إذ يقول: "إذا سألوني عنك مَوَّهت قصَّتي/ ولجلجتُ لجلاج الضفادع في البحرِ".
يقدّم الشاعر الخبز آرزي نصّاً غزلياً مفعماً في الرمزية والطريقة والأداء، إذ يتحدث غزلاً عن الآخر "ممّن يحب" إنه يحاول أن يُخبّئ قصته المُعلنة، من خلال شكلية "التمويه" في الرأي، ومن ثم عكس ذلك التمويه شعراً من خلال النص، فشبّه نفسه بــ"الضفادع" حين تتكيف وتموّه عن نفسها في البحر.
أما في العصر الحديث، فالشعراء لم يبتعدوا في توظيفهم لرمزية الضفادع عن الشعراء السابقين؛ نظراً للبيئة العربية التي ينتمون إليها، والتي تهيمن عليها لغة الفخر أو الهجاء وما شابه، ومن ذلك ما وظّفه الشاعر جميل صدقي الزهاوي، في قوله: "وقد ابتلاني اللَه جل جلاله/ بغراب سوء ذم منه نعيق/ وبضفدع لولا اطراد نقيقه/ ما كنت اعلم أنه مخلوق/ ولعل من ضل السبيل سيهتدي/ يوما ومن قد نام سوف يفيق".
يحاول الزهاوي هنا أن يقدّم رؤية شعرية يذمّ فيها الآخر، من خلال تقديم وصفين للذم، "الغراب، الضفدع"، مقابلاً موضوعياً لمن ضل السبيل، أو رمزية النوم عن الحق أو خلاف اليقظة المعنوية.
وللجواهري نصّ يوظّف فيه كائن "الضفدع" من خلال الذم أو الهجاء بصورة مقصودة بعفويتها عن نظم الشعر السيئ، إذ يقول: "حتى كأنّ عيونَ الشعر يُعوِزُها/ وصفُ الدقائقِ من هذي التصاوير/ فما تُلِمُّ بها إلاّ مقاربةً/ ولا تحيطُ بها إلاّ بتقدير/ وجدت ألْطَفَ ما كانت مخالطةً/ نقَّ الضفادع في لحن الشحارير".
وللشاعر نزار قباني، نصّ يوظّف فيه رمزية الضفدع، إذ يقول: "نركض في الشوارع/ نحمل تحت إبطنا الحبالا../ نمارس السحل بلا تبصرٍ/ نحطم الزجاج والأقفالا../ نمدح كالضفادع/ نشتم كالضفادع/ نجعل من أقزامنا أبطالا../ نجعل من أشرافنا أنذالا../ نرتجل البطولة ارتجالا../ نقعد في الجوامع../ تنابلاً.. كسالى نشطر الأبيات، أو نؤلف الأمثالا../ ونشحذ النصر على عدونا../ من عنده تعالى".
يقدّم الشاعر نزار قباني رؤية واضحة عن النقد السياسي، وعن المجتمع في تقبّل الوضع الحالي، وما آل إليه من سلبيات في ظلّ الحروب المستمرة، فيحاول الشاعر وصف الحال بالضفادع.
ولقباني نصّ آخر، يُفضي به رؤية غزلية في أجواء النصّ: "أن تدور الكواكب/
وأن ترتفع السنابل/ وتتكاثر الأسماك/ وتثرثر الضفادع النهرية/ وتغني صراصير الغابة/ وتستدير أكواز الصنوبر/ وتشتعل أشجار الكرز/ دون إشارةٍ منك".
يحاول الشاعر تفصيل القول فيما يهيمن في بيئته من كائنات، لأن تكون إشارات توحي بها له، كالسنابل، الأسماك، الضفادع، صراصير، الصنوبر، الكرز، من دون إشارة من الآخر إليه.
وللشاعر عبد الوهاب البياتي نصّ، يقدّم فيه رؤية سياسية خالصة، يحاول أن ينتقد بها السلطة بصورة إيحائية رمزية: "من أي أرض هذه الألحانْ/ وأي رعد عاقر أيقظ في الوديان/ منازلَ الأقنان؟/ وحرّك الأضغان؟/ في هذه الضفادع المقطوعة اللسان/ فاستيقظي يا صخرة في الصدر، يا رمحاً بلا سنان/ يا كلماتٍ خُضِّبتْ بالدم، يا ناراً بلا دخان/ ولتُسكتي ضفادع السلطان/ والجيفَ الموشومة بالنار والجرائد القديمة/ ولتضئِ البروق/ يا أم دفرٍ، وجهك المسحوق/ وثوبَك المرقّع المسروق/ فالفقراء صلبوا في السوق/ سلطانك المخلوعْ/ وكفروا بالجوع/ ولتُضئِ المشاعلْ/ ظلام هذا الكوكب الغارق بالأوحال والصقيع/ هذا الأقحوان الذابل".
يجعل البياتي من "الضفدع" مُعادلاً رمزياً، لحالتين، الأولى يوحي بها للإنسان المظلوم من السلطان، فتكون "الضفادع المقطوعة اللسان" إيحاءً للإنسان الخائف والساكت من السلطة، وهنا يكون المرء مظلوماً، والثاني، "ضفادع السلطان"، إيحاءً بأصحاب السلطة، وهم أتباع الظالم، وبكلّ الحالتين، يُشير الشاعر إلى نقد سياسي واضح، ومثل ذلك المعنى، ما كتبه الشاعر قاسم حداد: "سمع الأصدقاء صرير آلاتهم/ ثمة عطب في سلة الرأس/ والضفادع تنقّ/ كل جريمة تسمّى/ وهم محصنون بالإثم/ مجبولون على مكيدة الفراغ".
يُقدّم الشاعر قاسم حداد رؤية نقدية سياسية خالصة، على وفق إشارات رمزية، يُبيّن فيها التسلط، ومحاولة تجهيل الرأي، من خلال "تعطيب الرأس" ومحاولة قرن ذلك بصوت الضفادع، التي تظلّ رمزية للثرثرة المهيمنة على العقل؛ ليكون الإنسان مُحاطاً بضفادع السلطة، في ظلّ حصانة الإثم، ومكيدة الفراغ.