أمجد نجم الزيدي
تتطلب الكتابة الإبداعية من الكاتب - بأي جنس إبداعي- أن يكون في حالة من التفاعل المستمر مع نصوصه، إذ يمتزج لديه الإبداع بالقلق النقدي والرغبة الدائمة في تحسين ما كتبه، فالكاتب، بوصفه مبدعاً، لا يرى نصوصه كنتاج نهائي مكتمل، بل كمشروع مستمر للنقد والتجديد، فالاقتناع بالكمال في الكتابة يُعد أحد أكبر التحديات التي تواجه المبدعين، إذ إن الرضا الكامل عن النص يعوق النمو الإبداعي ويحد من قدرة الكاتب على التطور.
إذ يمثل القلق الإبداعي هنا دافعاً رئيسياً للتجريب والمراجعة، حيث يشكل الشك المستمر في كمال النص حافزاً لمواصلة التفكير في طرق جديدة لتطوير العمل الأدبي، إذ يُدرك الكاتب الحقيقي أن الإبداع لا يعني الثبات عند نقطة واحدة، بل هو عملية متجددة تتطلب النقد الذاتي كأداة لتحليل وتقييم النصوص بشكل متواصل.
يمكن القول ومن خلال هذا المنظور، أن الكاتب يتعامل مع نصوصه بوصفه أول ناقد لها، ما يدفعه إلى مراجعة أفكاره وصياغاته بعمق أكبر، حيث يمثل هذا التفاعل بين القلق الإبداعي والتجريب جوهر العملية الإبداعية الحقيقية، حيث يسعى الكاتب دائماً إلى تجاوز ذاته والوصول إلى أفق جديد من الابتكار.
فمن البديهي أن الوعي الإنساني لا يتوقف عند نقطة ثابتة واحدة، بل هو كيان ديناميكي يتسم بالحركة والتطور المستمرين، إذ تشكل هذه الطبيعة الحركية للوعي البشري، جوهر تجربة الإنسان في استيعاب ذاته والعالم المحيط به، إذ يمتلك الكاتب حساً واعياً، يسعى به دائماً إلى استثمار هذا الوعي المتنامي في تطوير تجربته الإبداعية، فوعي الكاتب لا ينبع من فراغ، بل يتشكل عبر تفاعله مع عدد من العوامل الفكرية والثقافية التي تشمل القراءة المتنوعة والاطلاع على التجارب الإبداعية المختلفة سواء في الأدب أو الفنون أو الفلسفة، ما يُعزز من رؤيته ويُعمق فهمه لكل من الواقع والنصوص التي يتعامل معها.
تلعب أيضاً الممارسة المستمرة للكتابة دوراً محورياً في صقل مهارات الكاتب وتوسيع أدواته التعبيرية، فمن خلال المثابرة والاستمرارية، يكتسب الكاتب خبرات تراكمية لم يكن يمتلكها في بدايات تجربته الأدبية، وهذا التراكم المعرفي والمهاري يتيح له إعادة تقييم تجربته الكتابية بشكل نقدي، ما يساعده على تحديد نقاط القوة والضعف في أعماله السابقة، ويسمح له باستشراف طرق جديدة لتطوير وعيه الإبداعي، ومن المهم أن نُدرك أن هذا التطور لا يحدث في عزلة، بل هو ثمرة لتفاعل الكاتب مع قراءاته وتجاربه ومحاولاته المستمرة للخروج عن النمطية واستكشاف أفق جديد للكتابة.
يُعدّ التجريب الأدبي، بما يحمله من جرأة في تحطيم الأشكال المألوفة وتجاوز الحدود المتعارف عليها، ركيزة أساسية لدفع الكاتب نحو مراحل متقدمة من الوعي الإبداعي، إذ يسمح للكاتب بإعادة التفكير في أدواته وأساليبه التعبيرية، ما يعزز من قدرته على الابتكار والتجديد، فمن خلال هذه المحاولات المستمرة لتجاوز القوالب التقليدية، يتعمق فهم الكاتب لنصه الإبداعي وللعالم الذي يحيط به.
يمكن القول أن الكاتب يدرك تماماً احتياجات نصه الإبداعي في كل مرحلة يمر بها، فهو ليس مجرد منتج للنصوص، بل هو أول ناقد لها، كونه أول قارئ يتفاعل معها، وهذه القراءة الأولية للنص تجعله ناقداً صارماً لما يكتبه، إذ يعيش لحظات مستمرة من المراجعة الذاتية التي تترافق مع شعور دائم بعدم الاكتفاء، لا ينبع هذا النقد الذاتي من السعي للكمال بقدر ما هو نابع من قلق إبداعي مستمر، يدفع الكاتب إلى التساؤل حول كيفية تحسين النص، سواء من خلال حذف جملة معينة، أو إضافة تفاصيل أخرى، أو تعديل صياغة بعض الأفكار.
إنَّ فكرة الكمال المطلق في العمل الإبداعي هي فكرة إشكالية، والاقتناع بتحقيقه قد يكون أشبه بآفة تلتهم روح الإبداع، فالركون إلى الرضا الكامل عن النص يعني، بشكل أو بآخر، نهاية لحركة النمو والتطور، وعلى العكس من ذلك، يبقى الشك الدائم هو المحرك الذي يدفع الكاتب إلى الاستمرار في تطوير قدراته الإبداعية، فالكاتب الذي لا يرضى بالثبات يُدرك أن الإبداع الحقيقي لا يتوقف عند نص معين أو مرحلة محددة، بل يتطلب دوماً مراجعة مستمرة للنصوص، والشك في كمالها، والسعي الدائم نحو تحسينها.
تمنح هذه الحركية النقدية الداخلية، التي تنمو مع الممارسة والقراءة والتجريب، النصوص الأدبية حيوية وديناميكية تجعلها قابلة للتطور، فالكاتب لا يرى في النصوص التي كتبها سابقاً مجرد منتجات نهائية، بل يرى فيها محطات في مسيرته الإبداعية، لذا فإن الرغبة في التغيير والتحسين تظل مستمرة دائماً، وهي التي تدفع الكاتب إلى الاستمرار في العمل على نصوصه وإعادة النظر فيها حتى بعد نشرها.
نرى ومن هذا المنطلق، أن الكثير من الكتاب يعزفون عن العودة إلى نصوصهم القديمة بشكل متكرر، حيث أن كل قراءة جديدة تولّد رغبة في التعديل، وكأن النص، حتى بعد نشره، يظل مفتوحاً على احتمالات جديدة للتطوير والتغيير، هذه الرغبة الدائمة في تحسين النص تعكس إدراك الكاتب العميق بأنَّ العمل الأدبي لا يمكن أن يصل إلى حالة من الكمال النهائي، بل هو دائماً في حالة من التغير المستمر، فالنصوص الأدبية، بطبيعتها، تظل مفتوحة وقابلة للتحول، وهذا ما يجعل الإبداع الأدبي عملية مستمرة لا تعرف الثبات أو الجمود.
يمكننا القول أن الكاتب الحقيقي، الذي يدرك هذا الجانب النقدي الذاتي في عمله، يظل دائماً في حالة من الحوار المتواصل مع نصوصه، حيث تتجدد قدراته الإبداعية من خلال هذا التفاعل المستمر بين النقد الذاتي، والقراءة المستمرة، والتجريب الإبداعي، لذلك فإنَّ الكتابة، بهذا المعنى، ليست مجرد إنتاج لنصوص، بل هي عملية تفاعلية مستمرة بين الكاتب وذاته، وبين الكاتب والعالم، وبين الكاتب والقارئ، ما يجعل منها رحلة لا تتوقف عند حدود معينة، بل تظل مفتوحة على احتمالات التجديد والإبداع.