د. ميثم الحربي
بدأتْ مساحةُ الاهتمام، بتجربة الشاعر عدنان العيسى، تتّسع شيئًا فشيئًا.. وتحديدًا بعد أنْ تسلّقَ رأسَهُ الهذيان؛ ذلك أنّ ما انتابَه في مُنتصف حياته من عَتَهٍ واختلال جعلَ النظرة إليه تتوقّر؛ لأنها تتم من وراء غُلالة إحدى صور الفقدان؛ فقصائدُهُ - أيامَ الصحو - كانت تسيرُ هادئةً مع الرّكب الذي وجدَ نفسَهُ يكتبُ في فضاءٍ تقلّصتْ فيه التّعدُّدية، وتغوّلَتْ عليه الرّقابة، وتشدّدَ حوالَيْه مُضطرَبُ السياسة.
ويتبدّى للمُتأمل في تجربة العيسى أنهُ واحدٌ من مُفسّري تلك الأمراض؛ فقد كتب - وفقا للمنهاج الصوتي لشعر التفعيلة - تشخيصًا شاحبَ الخطوط والملامح على طَبْلةِ مجتمعٍ قليل النوافذ، وكثير السلاسل، يعملُ فيه ثقلُ الخطاب الأُحادي، على تَضحيل عبقريةِ أحلامه، وتفتيتِ رؤاهُ وتطلُّعاتِه، وتبكيتِ رغباتِه.
شِعر الدُّنيا
وفي أقصى أطرافِ الطيف الشعري، تقعُ ما أُسمّيه "أشعار الحياة"، ويُهيمن على مملكتها روح الانكسار، ومُصافحة الهزيمة. وشعر الدنيا أو الحياة من النمط الذي يكتبه العيسى: مُرهق أو منبوذ.. يبدو من القراءة الأولى مُضادًّا للشعر؛ من حيث إنه يكون مُبتذلًا ومُتناثرًا للغاية، ومُتعلّقًا أكثر مما ينبغي بالأحداث الآنية، حتى لا يكاد أنْ يرقى إلى ما هو جديرٌ بالدّوام؛ فهو ابنُ ولادةٍ مُتردّدة تُنافي فُجائيةَ النبوغ، ودهشة البديهة.. والموضوعُ فيه يَخْطِرُ - في بداية الأمر - ضائعًا، أو مُقتصرًا على السرد الوضعي. ورغم هذا فإنّ من محاسن الشعر أن يشقَّ طريقَهُ بين وجهات النظر المتعددة، مُسائلًا فكرة الهوية الشخصية، ومُتفهِّمًا مسألةَ المُعاناة من وجهة نظر أخلاقية، تلوحُ في خلفيتها غُلُواءُ التناقضات القومية وأحداثها المُتسارعة من جانب، وحَلْفاءُ الاحتدامات السياسية الوطنية من جانبٍ آخر.
ومن بين هذا الدّخان، يقول عدنان العيسى، في نص له بعنوان "مُشاركة":
"لا يُصرُّ الجنونُ النبيلُ
على شُرفةٍ
أ يُصرُّ أنْ يُشاركَني
مَهبطي
وانتشاري
كأنَّ اعتمادَ المنافي وصولٌ لها
باحتفالٍ
ومنع الأغاني اضطرارْ..".
استعراض المياه
جالَتْ نظرةُ الشاعر العيسى، وهي طفلةٌ سهوب وأهوار مُحافظة ميسان، جنوبَ العراق، وانتبهتْ مُهجتُهُ إلى إغراءاتِ المجاز، في معهد إعداد المُعلّمين، ثُمّ تلاشى وجهُهُ مُختبئًا في الرّخام الأسود للحرب، ومهرجان الدماء!
في مُناسبةٍ للصحافة الثقافية، قال مرةً عن طريقةِ كتابة الشعر لديه: "إنني أجدُ في الأحداث القومية قالَبًا للقصيدة، ومن الحافز الطبقي معينًا لا ينضب".
وبشأن قول العيسى هذا، أقول ثلاث ملاحظات تُراجع مرحلته، وتطالُ طبيعة آفاق التنظير، وأطوار الشعر والتحبير، وألوان التجديد، وكما يأتي:
1. في التنظير: ثمّة مواضعات علمية، تُفيد بأنه لا يمكن دخول التاريخ من اللاتاريخ؛ لذا تفارق وجهةُ نظر الشاعر تلك الدعوات التي جَنحَتْ إلى حماسة القطيعة مع التراث في ما يخص اللغة الشعرية وبياناتها المرافقة؛ فهو يهتم بالاتصال مع الحدث القومي بوصفه منظورًا تأسيسيًا للتقليد
الأدبي.
2. في التّحبير: ثمّة مواصفات تمتّعَ بها شعر العيسى؛ فهو قد ألّفَ قصائدَ مُتوثّبة، وشديدةَ الحيوية، في أثناء فترة الحرب، وضمّ شعرُهُ كثيرًا من عناصر التشويق، والخطر، وكمائن المُفاجأة.
3. في التجديد: ثمّة مُفارقات، طبعتْ شعر عدنان العيسى ومُجايليه؛ حيثُ إنّ نداءات التجديد ليست بِدْعًا وحِكرًا عليهم؛ فهي فعّاليةٌ قديمةٌ جديدة، وأهم عامل من عوامل استيلادها عافية فضاء الحرية؛ بينما شَهِدَتْ مرحلة الشاعر التضييق، وانحسار التعددية؛ فظلّتْ نداءات التجديد صرخةً تتلوّى بين وِديان!
من نص له بعنوان "سعة" يُنشد
العيسى:
"لا أزورُ السدود التي رتّبَ الحُبُّ فيها وصاياه
يا حُبّ
لو أنتَ واجهتَ فِعلَ الثقوبْ
لأنكرتَني
كيف لا تُنكر - الآن - ظلّ السدودْ
له سعةٌ وافرة
أنت يا حُبّ
أيُّ مجالٍ تُفرغُهُ للحطبْ
وأيُّ الرموز تُفرغُها لليالي
وحسبْ".
الاحتماء بالخيال
وقُدُمًا، نكتشف أنّ أشعار العيسى، لا تُواجهُ الواقع؛ وإنما تحتمي منه بالخيال؛ فهو غير متوقِّع أن يجد اسمه محفورًا بأحرفٍ من الدخان.. وها هو يلتمس تقاطيع بلاده؛ فيلمع في فكره بريق اللهب وألسنتُهُ الجارفة، ومن عُمق المرآةِ السوداء يرى امرأةً تُحاولُ محو الأسماء، وتلهو - أحيانًا - بأنْ تُمسّدَ شَعرَ الصبيّ.
نقرأ قصيدة "لها في الدخان"، للعيسى:
"إذا انفردتْ في الدُّخان الذي كان يوحي لها بالثقة
واحتوت بأصابعها
نخبَها
كم تُزيحُ مُحاورةً
لا تؤدي احتماء المراثي
بقبلة
كأنّ من السِّحر
تهبطُ إغماضةٌ في المكانْ
وتنبتُ فوقَ منافضِهِ
أ يُغادرُني قولُ 'إني أُحبكِ' ..
يا للدُّخان !.