حسين الصدر
- 1 -
قد تقرأ على ثلة من الأدباء شيئاً من الشعر، وسرعان ما ترتفع الأصوات بالاستحسان له، وإبداء الإعجاب به ...
ولكنك حينما تخبرهم بأنَّك الشاعر الذي قال تلك الأبيات، تجد الانقلاب على الأعقاب، وتبدأ عملية الاستخفاف والنقد الموجع ..!!
هكذا وبكل وقاحة
والسؤال الآن :
ما الذي يدعوهم الى ذلك؟
أغلب الظن انهم ينطوون على عُقَدٍ نفسية، تأبى التسليم لأحدٍ بالتفوق عليهم، لا بل هم لا يريدون أحداً أنْ يكون منافساً لهم ..!!
وهذا هو ضيق الأفق ..
والبخس الصريح لما عند الآخرين..
- 2 -
وقديماً قال المتنبي :
الظلمُ مِنْ شيمِ النفوسِ فانْ تجدْ
ذا عفةٍ فَلِعِلةٍ لا يظلمُ
وللأسف فإنَّ الاحجاف هو الحالة العامة الشائعة إزاء ما تجود به القرائح وتكتبه الأقلام وتُبدعه العقول من ابتكارات نظرية وعملية ..
- -3
والتنافس بين المحترفين السياسيين يحفل بالكثير الكثير من العجائب والمفارقات، وهي مشهودة ملحوظة لا تحتاج منا الى بيان الامثلة ...
- -4
المثال التاريخي :
كان محمد ابن يوسف القاضي قد عهد الى (أبي عمر الزاهد) –العلامة اللغوي المعروف بغلام ثعلب ت 345 هـ - بتأديب أولاده،
“فأملى يوماً على الغلام ثلاثين مسألة في اللغة،
وختمها ببيْتَين،
فحضر (ابن دريد)، وابن الأنباري، وأبو بكر بن مِقسم عند القاضي، فعرض عليهم المسائل، فما عرفوا منها شيئاً، وأنكروا الشعر
فقال لهم القاضي :
ما تقولون فيها؟
فقال ابن الانباري :
أنا مشغول بتصنيف (مشكل القرآن)
وقال ابن مقسم :
وذكر اشتغالاته بالقراءات
وقال ابن دريد :
هي من وَضْع أبي عمر ولا أصل لشيء منها في اللغة “
هكذا تم النفيّ من قبل (ابن دريد)، وتمت الاستهانة بتلك المسائل التي أملاها (ابو عمر محمد بن عبد الواحد غلام ثعلب)
وحين علم ابو عمر بما جرى “سأل من القاضي إحضار دواوين جماعة عيّنهم له ففتح خزانته وأخرج تلك الدواوين،
فلم يزل يعمد الى كل مسألة ويخرج لها شاهداً ويعرضه على القاضي حتى تممها
ثم قال :
والبيتان أنشدناهما ثعلب بحضرة القاضي وكتبهما القاضي على ظهر الكتاب الفلاني،
فأحضر القاضي الكتاب فوجدهما،
وانتهى الخبر الى ابن دريد فما ذكر ابا عمر الزاهد بلفظةٍ حتى مات “
سيد اعلام النبلاء / 15 / ص512
يلاحظ هنا :
1 - إنَّ كلمة اعتذار واحدة لم تصدر لا من (ابن دريد) ولا من (ابن الانباري) و(ابن مقسم)
وكلمة الاعتذار هي أضعف الايمان .
ولا يكفي عدم التعرض بالسوء الى ابي عمر بعد ذلك ...
2 - إن القاضي محمد بن يوسف كان ضعيف الذاكرة، والاّ فالبيتان كان (ابو عمر) قد أنشدهما بحضرته وكتبهما بقلمه ..!!
3 - كان (ابو عمر) مستحضراً أسماء المصادر التي رجع اليها، واستطاع بفضل ذهنه الوقاد وذاكرته القوية أنْ يثبت أنه سيد الموقف
وهكذا يجب ان يكون العلماء والباحثون .
قال اليشكري الشاعر في (ابي عمر):
فلو أنني أقسمتُ ما كنتُ كاذبا
بانْ لم ير الراؤون حَبْراً يعادِلُهْ
اذا قلتُ شارفنا أواخِرَ علمِهِ
تفجّر حتى قُلْت هذا أوائِلُهُ
وهو مديحُ منصفٍ، ويحزننا ان الانصاف لا تتسم به الا الصفوة من الناس