(تمتاز هذه المجموعة الشعرية بانثيالات عدة، وانزياحات غير مسبوقة، وصور بلاغية رائعة، يكاد القارئ أن يقول: (كنت أنوي أقول ذلك) وهو ما يصطلح عليه بالسهل الممتنع، وميزة انه ممتنع لأنه ليس لأي شاعر ان يتمكن منه ومن اجادته؛ وهي مجموعة شعرية تضم قصائد رائعة متماسكة البناء، وبليغة المعاني، فالمعاني فيها ليس من قول الجاحظ (المعاني مطروحة في الطريق) بل هي معان تحمل من الجدة والنبوغ ما يدل على تمكن الشاعر تفجير اللغة ليأتي بمعانٍ غير مسبوقة...).
بمثل هذا الكلام المرصوف نجد مئات المقالات النقدية؛ ولقد سبق أن نشرت - هنا في الصباح وفي كتابي النقد الثقافي ريادة وتنظير وتطبيق، العراق رائداً - مقالاً نقدياً يصلح لجميع القصائد، وطلبت من القارئ الكريم أن يملأ الفراغات بنماذج شعريَّة، واسماء دواوين، وما الى ذلك؛ والآن وبعد ان استشرت هذه الظاهرة وصارت ظاهرة تجارية لها دكاكينها، أود التركيز على النقد الأدبي المدفوع الثمن؛ فلقد ملأ النقاد التجاريون الوسط الأدبي بأسماء شعرية ما انزل الابداع بها
من سلطان.
مثلما صارت لأطاريح الدكتوراه ورسائل الماجستير دكاكين شهيرة وصفحات ممولة في الفيسبوك، تعلن عن استعدادها كتابة الاطروحة او الرسالة للطالب مقابل مبلغ يتم الاتفاق عليه، وهي ظاهرة أسهمت في إشاعة الأمية الأكاديمية الى أبعد حد، أقول: مثلما انتشرت هذه الظاهرة، استجدت ظاهرة خطيرة جداً ، هي كتابة مقال نقدي أو ربما كتاب كامل، مقابل ثمن يدفعه متشاعر يريد الشهرة والاتكاء على اسم الناقد التجاري.
لقد شاهدت بمنتهى الألم كيف يتفاوض بعض الذين يأكلون من كذبهم وهلوساتهم وانشائياتهم التي يسمونها نقداً ، شاهدتهم كيف يتفاوضون على السعر، لحد قول احد النقاد لزبونه: (يا أخي المبلغ قليل، على الأقل ادفع مثل فلان، لأنك عزيز ومن طرف صديق عزيز ويصعب عليّ أنْ ارفض الكتابة عن شعرك)، سمعت هذا وفركت اذني وعيني جيداً، لأتأكد من أني في مكان ثقافي ولست في سوق لبيع المواد
المستعملة.!!
إنَّ هذه الظاهرة الخطيرة أسهمت في جعل أصحابها لهم اعمدة ثابتة في صحف محلية وعربية، وصار لهم حضور تلفزيوني، وصارت دعوتهم (التي هي ايضا مدفوعة الثمن) الى مهرجانات خارج العراق تنظمها دكاكين عربية غير رسمية، على ان يتحمل المتشاعر تكاليف السفر، فيعود بعدها محملاً بدرع زجاجي وشهادة من الورق (المقوّى) وفيها اسمى عبارات التبجيل، مثل الشاعر الكبير والمبدع وما الى ذلك.
إنها آفة خطيرة تنخر جسد الإبداع الحقيقي وتشوه صورة الأدب الحقيقي، لذلك لا بدَّ من فضح هؤلاء والحد من خطورتهم على سمعة الأدب.