الصورة الفوتوغرافيَّة والمتعين الجمالي

ثقافة 2019/06/25
...

د.جواد الزيدي
لقد شغل الفوتوغراف الأوساط الفنيَّة منذ زمن ليس بالقريب، إلا أنَّ منتصف القرن العشرين كان مرحلة فاصلة في تجذير هذا الفن وتحولاته الوظيفية التعيينية الى حجز مكانه بين الفنون الجميلة وانفتاح مسافته الجمالية على التضمين في تشيييء علامته الصورية سواء كانت ايقونية أو اقتربت من فعل التجريد. ولعل أهم التحولات التي عني بها هذا الفن هو المحاولة التي قام بها (جان بول سارتر) في كتابة سيرته الذاتية بالصورة الفوتوغرافية في ضوء المقاربات الزمنية والتبدلات التي يحدثها الزمن على هيئته الخارجية، فقد نشر مجموعته الصورية التي تلاحق تلك التحولات وتؤشر حدودها المكانية منذ أن كان طالبا في الجامعة ومتظاهرا ومعتقلا واستاذا جامعيا وفيلسوفا محاضرا أو الصور التي جمعته بسيمون دي فوار تحت برج ايفل أو محفل عام في أواخر حياته وقد تبدل سواد شعره الى بياض مع تبدل ملامحه، ليكتب خارطة حياته بالصورة ازاء تحولات الزمان والمكان في البنية المتعينة، ولكنها بالتأكيد ستفضي الى قراءة جمالية تأملية تنضوي على التضمين بما آلت اليه الصورة وامتداداتها اللامرئية عبر الزمن وتسربها خفية الى عوالمه
 الداخلية.
وبفعل هذه الاحالات والانفتاح اتجهت فنون ما بعد الحداثة لتتخذ من الصورة الفوتوغرافية عنصراً جمالياً في تشكيلها والاشتغال على اخراج الصورة من نسقها التقليدي/ الوظيفي الى نسق آخر جمالي يدخل في كونها مماثلة لصورة متعينة في الواقع تنتظم بتكرارية متوالية من قبل فناني الفن الشعبي الأميركي (البوب آرت) واعتمادها محورا أساسيا في صياغة خطابهم البصري، فجاؤوا بصور الرئيس الجنوب أفريقي (نلسون مانديلا) والممثلة (مارلين مونرو) وأخرى غيرها وتم تكرارها بطريقة الشبك الطباعي الملون المختلف من صورة الى أخرى على السطح التصويري ذاته، بيد أنها تتمظهر بشكل آخر في كل مرة، وهكذا فعلوا مع الأشياء والموجودات الأخرى كعلب الفواكه المجففة والخضار التي تنتج صورة لها سماتها الجمالية تحاكي اليومي والمهمل والمهمش في الواقع والزج به الى الحياة وفعالياتها انطلاقا من فهم الفنان لفكر ما بعد الحداثة الذي أسهمت في اظهاره الظروف الموضوعية الممثلة في التحولات السياسية والاجتماعية والفكرية ضمن معطيات واقع ما بعد الحرب 
العالمية الثانية.
وبفعل هذه التوصلات التي أعلت من شأن الصورة الفوتوغرافية اتسقت رؤى تنظيرية مهدت للاقتراب من هذا المعطى الجمالي وتفسيره، فقد عد (امبرتو ايكو) الصورة نسقا ثقافيا ينقسم الى اتجاهين، الأول تعييني والآخر تضميني، واتخاذ مقاربات جمالية لهذين النمطين. فالتعيينية يقصد بها الصورة الفوتوغرافية ذات المقاصد التواصلية المباشرة على الرغم من اكتسابها بعدا جماليا في مثالي صورة سارتر وصور فناني البوب آرت، أما التضمينية فهي التي تعنى بها الصورة الجمالية التي تتخذها حركات الرسم أساسا في تشييد خطاب بصري سواء كانت هذه الصورة مأخوذة من الواقع والتعديلات الفنية المقترحة عليه، أو الناتجة من جراء
 سلطة الخيال.  وقد القت هذه النتائج بظلالها على الثقافة البصرية العربية والعراقية مثلما تكرست الكثير من المناهج النقدية والنظريات الفكرية والأساليب الفنية المترحلة من الآخر، فقد استطاع البعض الانشغال بالصورة الفوتوغرافية بوصفها مشروعا ثقافيا يمكن التوصل من خلاله الى نتائج مختلفة وتستمد خلودها وأثرها من طبيعة الخطاب وان لم تتضح كظاهرة فنية يمكن الركون اليها ودراستها برؤية نقدية، الا أنها فتحت الباب لتفكير مختلف يصب في العديد من التصورات التي تغني
 الموضوع. 
ففي اهتمامات (كفاح الأمين) كشف عن مشروعه الذاتي المقترن بالذاكرة الصورية ومحمولاتها الدلالية لتكون بديلا عن الذاكرة الشفاهية أو المدونة النصية وانجز بهذا عشرة مجلدات تلاحق الصورة بوصفها سيرة مدينة متخذا من بغداد بداية لهذا المشروع كونها مركزا تفضي التحولات فيه الى خصائص مجتمعية ويصلح كعينة للدراسة، اذ وثق قرنا كاملا (القرن العشرين) من خلال الصورة وعلى مستوياتها المختلفة الاجتماعية والسياسية والثقافية
 والفنية. 
كما عمد (شاكر لعيبي) في كتابه (بلاغة الصورة الاشهارية) الى قراءة جديدة وغير مألوفة للصورة في فضائها الفلسفي ومدى بلاغتها في تحديد مسارها الاشهاري طبقا لآلية التأويل القائم على المفارقة الاشهارية نفسها، وبيان طبيعة البنى الاجتماعية المؤثرة فيها وسماتها ازاء تداول الصورة والتعاطي معها على أساس البنية الثقافيَّة لكل مجتمع التي ستكون جماعة مفسرة من أجل الوصول الى المعنى الكامن 
فيها.