د. سعد عزيز عبد الصاحب
يسرد نص "سيرك" للمؤلف المخرج جواد الاسدي مأزق العلاقة الدراماتيكية بين الفنان والسلطة وينبش في تلاوين تلك العلاقة من وجهة نظر سسيوـ سياسية باذخة القيمة الجمالية والمضامينية، فشخصية "الكلب" الغائب الحاضر في السرد تمثل المعادل الموضوعي لشخصية "الجنرال"، فكلما زادت شهرة الكلب وشعبيته زاد نفور الجنرال منه، وكلما اغرمت الجماهير بألعابه زاد الجنرال له بغضا وكرها وعداوة، أنها أطر العلاقة التأريخية النافرة ابدا بين الفنان والسلطة على مر الزمان، شخصية الروائي "لبيد" رمز لذلك المثقف المستهدف دائما وأبدا من قبل السلطة وآلتها.. المثقف العضوي.. الثوري.. الذي تمنع رواياته ويعتقل وتشوه يده التي يكتب بها، الروائي "لبيد" الذي يؤثر العزلة في حديقة عامة نائيا بنفسه عن ملذات الحياة ومسراتها كأنه غسان كنفاني، أو عزيز السيد جاسم الشهيدين المغتالين ببلطة السياسة والمهروسين بسرفات مجنزرتها البغيضة. أما شخصية "كميلة" فهي صوت الحب والفن المعذب الذي أخذ يذوي محترقا، تعيش تمزقا حادا في الوعي بين حبها وعشقها لفنها وشغفها بالعلاقة مع كلابها التي هي استعاضة موفقة لخراب علاقتها بالإنسان تلك العلاقة التي أُسقطت وديست بفعل جشع "ريمون" وبراغماتيته المقيتة وسقوطه الأخلاقي والقيمي اضافة الى انبطاحه الابدي والتأريخي للسلطة السياسية و"فوبيا" رعبه منها جعلته بالنتيجة مستكينا مستسلما لكل شروطها القسرية الجائرة، لقد ازدرى "ريمون" قيمة الفن الصافي الخالي من المنفعة المادية والحسية، ومسخه الدائم لـ "كميلة" اسمها.. شواغلها الفنية.. حياتها.. حريتها.. التزامها.. كلبها الذي تحب وتهوى.. النص ذكرني بعلاقة الحصان والحوذي في سردية "تشيخوف" العجيبة وعلاقة شخصيتي "بيتر" و"جيري" والإنسان المستوحد فيهما وخصوصا التناص في علاقة "جيري" بكلب صاحبة البانسيون في نص "ادوارد البي" الشهير "قصة حديقة الحيوان"، وتأويلا حيا في شيخوخة السرد ونهايات العالم وأشراط الساعة وقيامها وتأبين الثقافة والمسرح الناظر إلى أطلاله بحزن وأسف.. إنه نص مقاوم.. ثوري بامتياز شاهدت في النص مدن "غزة" و"صور" تلك المدن الساحلية الفاتنة التي يحاول المحتل مسحها ومسخها وابادة ابنائها بدم بارد. نص يرمز لخراب العالم ونهايته بنهاية الثقافة والفنون. في نص سيرك يتعطل الحوار "الديالوج" ويتوارى ليبزغ "المونولوج" مشعا قويا مكثفا صارخا بكل حنجرته أن لماذا يحدث هذا؟ هل يستحق العالم كل هذا الخراب الذي خلفه الإنسان؟ مما يجعلنا نرى بأسف اننا بالفعل في عالم الحيوان بما فيه من غرائز ولسنا مع الإنسان الذي فضله الله بالعقل والحكمة على باقي خلائقه، ويغور النص في الغائب وشخوصه "الكلب والجنرال" ويرتكس إلى الماض لإدامة لحظته الراهنة.
وفي انفتاحنا على البعد التجسيدي للعرض يأخذنا مرة أخرى المخرج المؤلف جواد الاسدي لفتنة الممثل وحضوره، فهو رهانه اللانهائي فها هو يقول في "فولدر" العرض: "مسرحية سيرك تكريس لرسوخ فرضيتي بأن الممثل هو الملاذ والمخلص الحقيقي للعرض المسرحي روحا وجسدا وشغفا يشبه الصلاة للمقدس" وهو بهذا يندغم مع الممثل وروحه وخلجاته في فضاء صوفي متبتل محاولا رسم عصفوره كاملا، كي يستطيع الطيران والتحليق بعيدا في فضاء الابداع والجمال، في جنبة البناء السينوغرافي يستعيد الاسدي صورا لألبومات سابقة من عروضه وخصوصا تلك الطاولة والكراسي التي لم تفارق عروضه البتة، أضيفت لها أشجار سامقة ويابسة في خلفية المنظر لتحيل دلاليا الى شيخوخة المكان وعجزه واستلابه للإنسان ومعان تفيض بالاغتراب والوحشة والقنوط والاستسلام، فالحدث يجري في المكان العاري والشخوص كلها هي في الهنا والان هاربة من بيئاتها الاصلية، لتلتقي وتبوح وتتصارع في هذا المكان الاليف، فيا للعجب المكان في الخارج أصبح هو المكان الاليف، فبيوتنا قد قوضت علينا! مع ابتكار مجموعة وحشية متعرية بنت الفضاء المقصي بشموعها المضيئة ووجوهها الشاحبة وحيوانيتها الشبقة وكأنها حيوانات في غابة أكلت أحراشها أحيت الجوقة الايقاع السمعي والبصري للعرض وانقذته من الملل والرتابة بتكويناتها وتشكيلاتها الدالة في الفضاء.
يخلص الاسدي في تجسيد "مونولوجاته" لعملية كسر يقين السرد منذ بداية العرض ويضعنا امام راو متلون، فتطل علينا الممثلة شذى سالم بزيها الاسيوي وكأنها إحدى ممثلات مسرح "النو" و"الكابوكي" الياباني وتسرد مونولوجا في شحنات تراجيدية ومأساوية عالية في شعريتها لشخوص شكسبيرية ك ـ"لير" و"هاملت" وساحرات "مكبث" لتنفتح على جدل العلاقة بين السلطة والفن.. الفن الاصيل الضارب الجذور، الذي ترك مطروحا على قارعة الطرقات لتملأ مسارحه وسينماته القمامة والازبال والروائح العفنة ولتحيل ذهن المتلقي إلى ذاكرات مشرقة لفواعل فنانات سالفات كزينب وناهدة الرماح وازودوهي صاموئيل وسليمة خضير وغيرهن وان وظيفة الفن ورسالته، هي ليست فقط في انعكاس اليومي والمعاصر والوقائعي، انما هو التذكير والتحريض والتنبيه والمقارنة والإشارة الى لحظات الاشراق السالفة وما وصلنا اليه الآن من خراب، في استعراض رمزي لمرحلتين زمنيتين وحقبتين مختلفتين.
لم يكن المخرج المؤلف بعيدا عن استحضار قضايا امته السياسية والاجتماعية، فهو يشير الى وحشية الآلة العسكرية الإسرائيلية وإبادتها للشعبين اللبناني والفلسطيني بطريقة غير مباشرة خلت من الوعظية، إنما بحوار صادم وجرئ مع المقدس واستعارات درويشية،ـ نسبة إلى محمود درويش في لماذا تركت الحصان وحيدا ـ تنهي به الممثلة لحظات العرض وهي متوثبة على منصتها معلنة تأبينا رسميا للفن والإنسان والعالم.
وفي جنبة الاداء التمثيلي تتخلص الممثلة القديرة شذى سالم من ما علق بها من شخوص وادوار وعروض وصور سابقة، فهي تظهر لنا جديدة وناضجة دائما مع المخرج الاسدي منذ عرض "نساء في الحرب" لتتبدى لنا اليوم قوية متلونة لاعبة واضحة في صوتها ومرونة جسدها وجريئة في مقولاتها محتدمة ولكنها في لحظات أخرى تبدو تلقائية مرحة يومية لذيذة وخصوصا في حواراتها مع الروائي "لبيد" لكنها مع "ريمون" تبدو شرسة صلبة تحاول لطم الباطل ورده اينما ذر قرنه، كان واضحا وواعيا لديها هذا الفرز في حالات الاداء، والممثل المتطور علاء قحطان يؤشر فهما جديدا لشخصية "البرجوازي" العفن والساقط في وحل السلطة وسيانها يبدو واهنا ضعيفا جبانا يذهب سريعا الى فعل القتل والقسر والامتهان لكلبه وزوجته لعب "قحطان" في الاداء على حيوانية الشخصية وغرائزيتها بفهم ووعي متميز من خلال تثوير الفعل العضلي للجسد بحركات رمي الرصاص ولعق الصحون واخراج لسانه الشبق لدماء جديدة كي يتوازن ويهدئ من روعه وروع السلطة التي تقف خلفه فهو يقتل الكلب بدم بارد ومن ثم يقتل صوت المثقف "لبيد" والاخير مثله احمد شرجي بهدوء واتزان وشفافية وركوز احتاج الى حماس اكثر وزوربوية حركية ـ من زورباـ على الرغم من عطب الشخصية وإخصاءها بفعل السلطات، فكان حضنا دافئا لكميلة وذاكرة اججت مسراتها واوجاعها.