عبدالأمير المجر
من بين الأمور التي كانت سببا في تخلف الريف العراقي في العقود الماضية، هو انعدام وسائل النقل (الحديثة) وتحديدا السيارات، التي لم تصل إلى أغلب قرى ومناطق الريف، الذي ظل معزولا عن المدن ومتراجعا على مختلف المستويات، فسكان الريف الذين يشكلون اكثر من ستين بالمئة من مجموع سكان العراق ظلوا غير فاعلين في مؤسسات الدولة، بل وحتى العسكريين منهم الذين يؤدون الخدمة الإلزامية، كانت نسبة الهروب بينهم كبيرة، بسبب ضعف إمكانيات الدولة في فرض سيطرتها على مناطقها البعيدة شبه المعزولة لكثرة الأنهار والمستنقعات وانعدام الطرق المعبدة (الشوارع) التي توصل السيارات إلى هناك.. ولعل الخسارة الأكبر تتمثل بقلة الفرص، سابقا أمام أعداد هائلة من أبناء الريف للالتحاق بالمدارس ما يعني فقدان الدولة لطاقات كبيرة طواها الجهل وغيبتها الأمية عن دورها في بناء البلاد.. عقد السبعينيات كان بداية جيدة لتواصل الريف العراقي بالمدن بعد أن أصبح واقع العراق الاقتصادي أفضل، لكن الحروب وتداعياتها أبقت عليه غير متصل بشكل جيد بالمدن، أو إن ارتباط أغلبه بها ظل ضعيفا، ما جعل التفاعل السكاني على مستوى البلاد ليس بالمستوى المطلوب.. نستطيع القول إن المواصلات، وإن بقيت غير مكلفة ماديا للمواطن إلى اليوم، لكنها ما زالت تشكل بالنسبة له همّا يوميا، بسبب ضعف منظومة الطرق وعدم مواكبتها التطورات الحاصلة في هذا القطاع الحيوي، الذي يؤثر بشكل كبير في اقتصاديات العالم، بل إن منفعته باتت مزدوجة، فوسائل النقل الحديثة كالمترو والحافلات الحكومية التي تنقل الناس داخل المدن وبينها، أصبحت مصدر دخل كبير لموازنات الدول وأيضا لحيوية الحركة التجارية وتنقّل الموظفين والعاملين بمرونة إلى مواقع عملهم، ما يخفف من هدر الزمن الذي تتسبب به الزحامات اليومية وهدر الوقود أيضا، ناهيك عن الضغط النفسي على الناس وإضعاف الجانب السياحي بمستوياته المختلفة، سواء للقادمين من الخارج الذين ينفّرهم ضعف قطاع النقل وأيضا أبناء البلاد نفسها، لأن ضعف المواصلات يفقد الناس رغبتهم في التنزه والذهاب إلى الأماكن الترفيهية، ما يؤثر في حركة السوق ومجمل الواقع الاقتصادي، الذي باتت العوامل المؤثرة فيه متداخلة ومعقدة ولا بد من وجود استراتيجية حديثة للتعامل مع هذه المسألة.. الحملة الأخيرة لإقامة المجسرات والأنفاق كانت ضرورية، ولابد منها بعد أن أصبحت الحركة في العاصمة بغداد صعبة جدا، لا سيما أثناء الصيف الذي يشوي الناس في سيارات يفتقر اغلبها للتكييف وشوارع منهكة في مدينة كبيرة وواسعة، لكننا نرى أن التحدي ما زال كبيرا.
قبل أيام استأجرت سيارة (تاكسي)، وبعد الحديث مع السائق الشاب، عرفت منه أنه في منطقة قريبة من مجمع بسماية السكني الحديث، وأثناء الحوار حدثني بسرور عن الطريق الذي يربطهم بداخل بغداد، إذ بات معبدا بشكل جيد، الأمر الذي صار يسهّل عليه، كما قال، العودة إلى بيته ولو في ساعة متأخرة من الليل من دون أن يواجه معاناة كالسابق.. ولعل الكثير من مناطق العاصمة اليوم تحررت من عبء الزحامات، التي كانت ترهق الناس وتتسبب في تعطيل نشاطهم وتنغص عليهم أيامهم.. لكن مع وجود هذه المشاريع المشجعة، نرى أن بغداد ما زالت بأمس الحاجة إلى شركات عالمية في مجال الطرق، لتنهض بواقع النقل الذي ما زال متخلفا نسبيا ويحتاج إلى نقلة نوعية، ونعتقد ايضا أن إمكانيات شركاتنا ومعداتها غير الحديثة وخبراتها المحدودة، لا تجعلها قادرة على النهوض بهذا القطاع، الذي بات يمثل أحد أوجه الحضارة الحديثة.