ابتهال بليبل
في العام 1550 نشر الرسام جيورجيو فاساري أول كتاب مهم عن تاريخ الفنون (ولقي من النجاح ما جعله يعيد طبعه، بإضافات جمة، في العام 1580) وقد كان فاساري من حملة رأي انتعاش الفنون في عصر النهضة باعتباره بعثاً جديداً للإرث الفني (الانتيك) بعد رقاده الطويل طيلة العصور الوسطى.
وفي فاتحة كتابه عن حياة الرسامين والنحاتين والمعماريين يورد فاساري آراء من هذا القبيل: من أجل أن يكون مفهوماً، ببساطة ووضوح أن ما أدعوه "الماضي والقديم" هو أن القديم يعني الأعمال التي أنجزت قبل قسطنطين في اثينا ورما وفي غيرهما من المدن المشهورة حتى زمن "نيرون وفيسيانز وتراجان وهادريان وانطونيو"، في حين أطلقت تسمية الماضي على الأعمال الأخرى المنفذة منذ أيام القديس سيلفستر وما تلاه من أعمال البقية الباقية من الإغريق الذين عرفوا كيف يرسمون.. ولقد شهدنا كيف ارتقى الفن من تلك البداية المتواضعة إلى أرقى منزلة، وكيف هوى من تلك المكانة الرفيعة إلى الحضيض، وفي النهاية فإن طبيعة هذه الفنون تماثل تلك التي في غيرها فهي، مثل الأجسام البشرية، تولد وتنمو وتشيخ وتموت، وبوسعنا اليوم أن نلحظ بسهولة التقدم الذي حققته في ولادتها الثانية والكمال الذي بلغته وهي تنهض من جديد في زمننا
هذا.
هذا الرأي المعبر عن الثقة صادف استحساناً في القرن التاسع عشر، ونحن نتابع في العام 1855، كيف استعمل المؤرخ الفرنسي ميشيليه مصطلح "عصر النهضة" لأول مرة كصفة تسم حقبة كاملة من التاريخ ولا تقتصر فقط على انبعاث الآداب اللاتينية أو على الأسلوب المستوحى كلاسيكياً من الفنون. وسرعان ما اكتسب هذا الوصف في العام 1860 تحديداً شيئاً من السحر المضخم الذي لا يزال عالقاً في الأذهان، حين كان الإيطاليون جميعاً دعاة فضيلة، وكل رجال الدولة ميكافيليين، نسبة إلى ميكافيلي- وهو مذهب في السياسة يمثل النظرة القائلة بأن السياسة لا علاقة لها بالأخلاق- وكل البابوات أما وحوش مثل اسكندر السادس، أو أولياء مثل يوليوس الثاني وليو العاشر، ونادراً ما يكون التفريق بين هؤلاء وهؤلاء بمنأى عن الأهواء السياسية والدينية للمؤرخ
الفرد.
وعصر النهضة عبارة مفهومة على نطاق واسع جداً، لكن قلة من الناس حاولوا تحديدها عن كثب، وكتاب "فن عصر النهضة" لبيتر وليندا موري وترجمة فخري خليل كله تقريباً يدور حول هذا العصر المبكر، وحول تكون الأسلوب في الفنون الذي بلغ ذروته في "ليوناردو دافنشي ومايكل انجيلو ورافائيل"، ولا يزال يستخدم بصورة عامة كمحك للذائقة
الجمالية.
وغالباً ما يشار إلى أن هذه الفترة بدأت في إيطاليا أبكر مما في غيرها، في القرن الرابع عشر، وانتهت في القرن الخامس عشر أو ربما منذ عهد جيوتو في أوائل القرن الرابع عشر، وانتهت في القرن السادس عشر، أي بعد وفاة رافائيل عام 1520 وقبل وفاة تنتوريتو 1594.
ومن السمات البارزة لعصر النهضة التناغم والتناسق وفهم (الأنتيك) الكلاسيكي واستيعابه وتسخيره لخدمة المثل العليا. إن من بين الآثار العظيمة الباقية هو المعبد الصغير في باحة "سان بييترو في مونتوريو بروما"، الذي صممه برامانت في العام 1502.
إنه يدل على المكان المتفق عليه للقديس بطرس، وتصميمه عبارة عن صف دائري من الأعمدة يضم معبداً دائرياً لكنه متكامل في تناسقه وبالتأثير الغامض للتناغم بين عناصره. أما رافائيل الذي ولد في العام 1483 وتلقى تدريباً بإشراف بيروجينو أثبت أنه أحد الرسامين الشباب المتطلعين، وخاصة عمله "الصعود وتتويج العذراء" في الفاتيكان و "الصلب" الموجود في صالة العرض الوطنية بلندن، وكلاهما مرسومان حين كان في العشرين من عمره تقريباً. إن في رؤية القديس بيرنارد للعام 1506 أشياء كثيرة تعلمها رافائيل وخاصة لدى مقارنتها بأعمال حول الموضوع ذاته لفيلبينو ليبي، وحتى لبيروجينو نفسه. فهناك انفصال واضح في عمل بارتولوميو بين الظهور الخارق في اليسار والهيئات الطبيعية في اليمين، وقد جعل العذراء تحوم في الهواء بدلا من السير في الغرفة، كما تفعل تأويلات القرن الخامس عشر لفكرة "ثيمة" الموضوع ذاته. إن الأسماء الفنية التي أنعشت عصر النهضة مهمة، وفي أعمالهم مهارة تناغمت بشكل عميق مع الأحداث السياسية والاقتصادية والدينية وترتكز على الكمال والثقة والمثل
العليا.