د. أثير ناظم الجاسور
بين واقع ملموس ومشاهد ملؤها صور يلتقطها شبح يرسم بغطرسته خطوط ومستقيمات أصبحت منهج حياة لشعوب اعتادت أن تعيش بين حلم الاستقرار وحقيقة بائسة يتخللها انهيار وانكسار وانحدار، كلها ناتج خذلان يؤدي بكل واقعة إلى الموت.
في كل مراحل الانكسار العربي تتضح صورة العدو وذيوله، وفي كل مرحلة بكل معطياتها قطعا تتضح للشعوب مستويات حياتهم، التي باتت واصبحت وتستمر بلا معنى، بلا مستقبل. منذ ظهور حركات التحرر بلباسها العسكري بدأت الشعوب العربية تتدحرج ككرة ثلج بين افكار العسكرة وبين ايديولوجيا لا يؤمن بها سوى صانع سياسات هذه الحركات. وبين هذا التخندق وذاك، سارت الشعوب العربية باتجاهات غير معلومة، تصاحبها منطلقات غير منطقية عملت بالنهاية على تعزيز مكانة هذا الزعيم الذي نصب نفسه زعيماً، وبين معارضة تقف في منتصف الطريق تتبع اسلوب خطوة التقدم والتراجع بناء على ما يقرره مزاجها تجاه السلطة.
كانت أولى انكسارات العرب بعد ان تزعمت العسكرة بلدانها نكسة 1967 أو كما يسمونها أيضا حرب الايام الستة، تضارب اراء سبب الخسارة بين قوميين أرادوا تبرير الخسارة بفقدان الامكانيات والمؤامرة الكبيرة وبين إسلاميين أرادوا أيضا إقناع الناس ببعدهم عن الدين وتعاليمه، وبين الرأيين تجاهل الجميع فكرة القدرة والارادة وحقيقة الأنظمة، التي لطالما كانت ضمن فكرة أصحاب منتصف الطريق، ثم جاء التشتت العربي بين حروب واحتلالات وبين العسكري والمتدين، انكفأ العرب لينتقلوا لمرحلة اكثر خطورة قد تمر على منطقتهم وقيمهم وأنساقهم غير المعلومة سواء لهم أو لغيرهم، فانكساراتهم تعددت وتقسيمهم يعيش في داخلهم وهويتهم الجامعة تبعثرت لهويات دينية وقومية ومذهبية وتاريخهم لا يصلح لتضاده مع المستقبل وتبقى النكسات، فكانت أصوات الشعوب تُطالب ببقاء سبب النكسة وصراخ لا مثيل له بالقادم الذي سيكون افضل.
مشكلة المواطن العربي صُنف نفسه بموجب حياته، التي قد تكون في أغلب المناسبات قد فرضت عليه على انه ذلك المواطن المطيع، الذي يسير وفق ما يُراد منه، بالرغم من أنه قادر على رفض ظروفه وحياته وما يملى عليه وأن يكون صوته هو الفيصل بين الكرامة من عدمها، لكن بالمقابل عملية الإلهاء التي مورست عليه، جعلت منه يسير على حافة السكين بعد أن خضع لخطابات استوطنت عقله فجعلت منه يُفكر بذلك الآخر السياسي - الديني بالنتيجة، هو من سمح لذلك بعد أن فقد التمييز بين ما هو واقعي وبين حُلم ستتوارثه الأجيال، لتكتفي باللعنة على من سلم الراية مكسورة، السؤال هنا كيف يصنع هذا المواطن حريته وصوته غير مسموع، وما هي إمكانياته في صياغة اسلوب حياة غير الأسلوب المعتاد أو الذي يعيشه اليوم؟، المساحات الضيقة التي يعمل فيها هذا المواطن، جعلت منه جسراً لكل مشروع هو على علم بفشله مسبقاً، فهو سجين المطالبات لا غير، كل مخرجاته الاعتراض على السياسات الحكومية والتنديد لكل اعتداء خارجي، وإذا ما حدثت الأخير بات في حيرة من أمره أيهما يُرضي خطاب السياسة أو خطاب الهوية الضيقة التي استوطنت تفكيره.
فقد هذا المواطن جراء سلوكيات القطيع الفكري كل امكانيات صناعة اللحظة التاريخية والمرحلة المصيرية، وتم غلق التفكير بين السلطة السياسية والسلطة الدينية ليكون رهين الخطابين مع سرديات قصصية استقر تفكيره على تصديقها، لا يعلم أنه فقد السيطرة على العقل في تحديد بوصلته مع أي سلطة سيكون لتُشكل خيالاته سرديات أخرى بين ماضٍ يفتخر بكل إنجازاته وحاضر مقيد، لا يعطي أي مؤشر للتعافي، صوته اليوم كمن يرى نور الشمس في شتاء بارد جد يراها ولا يشعر بحرارتها، ومواقفه صيفية تحرقه وحده هو، وصوته يرتطم بذلك الجدار الصلب يعود بصدى عالٍ لا يسمعه غيره، هذا ما يحدث اليوم صراخ بلا صوت وبلا جدوى، ما هي إلا همسات كئيبة ترجمتها الانفعالات تحت مسمى تفريغ الشحنات.