أحمد الشطري
تبرز أهمية المكان في الرواية غالباً من حيثية أنه يمثل حيزاً يحتضن الحوادث والصراعات، وفي بعض الأحيان يدخل كعنصر فاعل ومساهم في سيرورة تلك الأحداث وتناميها، ولكننا نجد أن للمكان حضوراً آخر يتسم بأهمية فارقة في رواية الروائي محمد خضير سلطان "العابد في مرويته الأخيرة"، فقد شكل المكان المحور الذي تدور حوله البنية الحكائيَّة للرواية، وهو بذلك اكتسب ميزة الحضور الدائم والفاعل في عملية الروي مما يدفعنا إلى اعتباره الشخصية الرئيسية فيها.
وهذا ما يتيح لنا وصفها بأنها رواية سيرية للمكان، إذ تتجلى فيها أدبية السيرة، تلك السيرة التي تدوّن أركيولوجيا مراحل التشكل التاريخي للمكان، عبر أزمنة مموهة تربط بين التشكل الحضاري الأول الغارق بالقدم لهذا المكان، والولادة المتأخّرة لحضريته الجديدة. إذ ينطلق الكاتب في المبنى الحكائي لروايته من تاريخية التشكل الجغرافي والانثروبولوجي والسوسيولوجي لمدينته "مدينة الرواية" عبر لغة تتسم بإيقاع ملحمي يتعالق فيها البناء الشعري بالبناء النثري، مانحة النص السردي سمة الانفتاحية التي تجعل من النص عالما بانورامي التشكل بصور مختلفة ومتعالقة، تجمع بين الرؤيوي والجمالي في نسيج متنامٍ قابل للتوالد ومتحرّر من الانغلاق.
إنَّ وصفنا للرواية بأنّها ذات إيقاع ملحمي، مستند إلى طبيعة الروي التي اعتمدها الراوي في سرد رحلة تشكل المدينة بتنقلاته الزمنيّة عبر أزمنة تنفتح على المتخيل الأسطوري، والمتخيل الواقعي، ببناء لغوي يتسم بالشعريَّة والتراكيب البلاغيَّة، وبتشكلات تحفل بالرمزيَّة أكثر مما تنحو للمقولة المباشرة.
"ما عادت الوقائع اليوميَّة العادية للقرية الواسعة تنعكس على مرتسمات نسيج خيوط الصوف والوبر والمرعز، لم تكن مثل ذي قبل، نجمة أول المساء تنأى في فضاءات حقول العتمة أو أطراف أنوار زاهية بلونها المشتعل احمرارا.
كل شيء في القرية تزخر به زخارف السجاجيد، يبدأ النسيج بموجات قصيرة للماء وتترامى بقية الخطوط في امتداد البرية".
كما أن تأكيدنا على مقولة أن رواية محمد خضير سلطان هي رواية سيرة مكان يتأسس على دعامات، ليس لأنها تتحدث عن سيرة تشكل المدينة كثيمة رئيسية فحسب، وإنما إلى القصدية التي انتهجها الروائي في عملية التمويه لملامح شخصياته بمختلف وجوههم ومسمياتهم، كما أنّها تقترب وتبتعد في ذات الوقت من وعن ما هو واقعي وما هو أسطوري، وهذا أيضا من جانب آخر يشكل مستنداً إلى اقترابها من سمة البناء الملحمي، بيد أن ملامح المكان تبقى هي الوجه البارز الذي يمتص كل ملامح الشخصيات المؤثثة له، ليجعل منها جزءا مكملا لقسماته.
"صار مجلس العابد مثل بؤرة مزدوجة، يطل عبرها عالمان بين البرية القديمة والبلدة الجديدة، ويلبث خلالهما هؤلاء الناس، نظراء طين ربّة الخلق المؤجلون منذ بدء الخليقة خارج أوروك حتى لحظة غوايتهم بالمباهج الساحرة التي وفدت البلدة ولم يألفوها من قبل".
اعتمدت الرواية صيغة الوصف في تنامي أحداثها من خلال ما يرويه الراوي أو ما ينقله عن الرواة الآخرين الذين يظهرون بشكل مرجعي داخل الرواية، وهذه العملية أضفت على تقنية السرد سمة مغايرة عما هو معتاد إذ يظهر الراوي مرة بتقنية الرؤية من الخلف "الراوي العليم" أو كما يسميه جيرار جنيت" بالسرد ذي التبئير الصفر، بينما يظهر مرة أخرى بتقنية "الرؤية مع" أو "بالسرد ذي التبئير الداخلي" وفقاً لجنيت أيضا ويتمثل هذا في ما ينقله الراوي عن الرواة الآخرين الذين يشكلون جزءا من الرواية ويمكن أن نسميهم "الرواة الداخليين"، وهو ما جعل من الراوي يمارس وظيفتين في وقت واحد، وظيفة الراوي ووظيفة المروي له أيضا، بيد أن أولئك الرواة بقي حضورهم مموها من دون ملامح أو أسماء، ورغم علمية الراوي التي أشرنا لها، إلا أنها اقتصرت على عملية الوصف الخارجي لأفعال الشخصيات، دون التوغل في عرض دواخلهم وانفعالاتهم، أو تصويرها لبؤرة توتر يمكن أن تشكل فعلا دراميا أو انفعاليا. ولعل مبعث هذا الفعل هو التأكيد على مركزية المكان في الحدث السردي، والذي من خلالها تصبح كل العناصر الأخرى هي هوامش ساندة ليس إلا.
ورغم مع أشرنا إليه من مركزية المكان وهامشية الشخوص الأخرى، إلا أن متن الرواية حافل بالعديد من الشخصيات، ولعل أبرزها شخصيتا "وارد وجبير" اللذان يشكلان حضورا واسعا ومتغلغلا في الأحداث بيد أنهما بقيا غير واضحي الملامح، وكل أفعالهما تصب في الهيمنة الكلية لمركزية المكان.
إنَّ اختيار الروائي تأسيس البنية الحكائية لروايته على مبنى يمتد إلى زمن ما قبل التاريخ كما نجده في الفصل الأول من الرواية، ما هو إلا فعل قصدي لأسطرة المكان من خلال عملية تأثيثه بنبوءات آلهة الحضارات القديمة وأساطيرها، معززاً ذلك بكشوفات البحوث الأركيولوجية للمواقع الأثريّة التي قامت عليها أو بالقرب منها مدينة روايته.
وأخيراً لا بدَّ أن نشير إلى أن اعتماد رواية "العابد في مرويته الأخيرة" على محوريّة واحدة تمثلت بالمكان "المدينة"، وكثافة البناء السردي، وشاعرية اللغة، وصغر حجم الرواية، يدفع بنا إلى تصنيفها على أنّها تمثل أنموذجا مهما يضاف إلى النماذج المهمة التي تنطبق عليها تقنيات الرواية القصيرة أو ما تسمى بـالنوفيلا في أدبنا الروائي، ونزعم أن مثل هذه الروايات تمثل صورة حيّة لعلاقة توافقيّة مع طبيعة المجتمع المعاصر ومزاجياته القرائيّة المتململة، والتي أصبحت تميل بشكل واضح نحو فلسفة المينيماليزم في التخلّص من التفاصيل الزائدة والتركيز على ما هو أساسي أو مركزي، تلك الثقافة التي باتت تتغذى على معلومة الريلز مبتعدة عن التفاصيل والشروحات المطولة.