د. ضياء خضير
حين نرى الكيفيَّة التي حلل فيها جورج غادامير في كتابه "الحقيقة والمنهج" الاختلاف الجذري بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية التي تعتمد على التجربة الذاتية والحساسية الفردية والثقافة النسقية السائدة، يمكن أن نقدر المسافة الكبيرة بين ما نسميه بالعلوم القديمة والعلوم الحديثة. ونحن نتذكر أيضا ما قاله نيتشه من أن "الشيء الذي ليس له تاريخ هو وحده الذي يمكن تعريفه". ولأنّ المجتمعات لها تاريخ، فإنه لا يمكن تعريفها؛ وهذا لا يعني أنّه يتعذر تفسيرها، بل يعني أن تفسيرها يجب أن يضع في الاعتبار هذه التواريخ وكل ما تحمله من تعقيدات.
وما يقوله سعيد الغانمي مثلاً في كتابه "فاعلية الخيال الأدبي" الذي كان موضوعاً للدراسة في كتابنا الذي صدر هذا العام عنه تحت عنوان "كنز النقد وتأويل الناقد" من أن مشروعه يتحرك على مستوى الأطراف والتخوم والحدود من هذه العلوم و"يندس" بينها، ولا يدخل في صلبها، قد يفسّر لنا الكيفية التي تتم فيها محاولة استثمار "بلاغيّة المعرفة"، و "النماذج البلاغيّة" التي يعتمدها الفكر للتوصل إلى تكوين معلوماته ومراكمتها في أنظمة فكريّة، أقول إنّ من شأن ذلك أن يبقي بعضَ جوانب هذا المشروع متوقفة عند عتبات هذه التخوم والحدود وعدم ملاحظة ما يجري وسط ساحاتها وفي أعماقها لتبيّن طبيعتها وبناها الجوانيّة المكوّنة؛ كما أنَّ هدف الكتاب المعلن أو الضمني في التخفيف من أسر "المركزيّة الغربيّة" قد لا يتم إنجازه من خلال دراسة تبقى نفسها هكذا على الحدود ولا تدخل في صلب المشكلات الخاصة بالعلاقة الملتبسة القائمة بين الشرق والغرب، فضلاً عن أن ذلك لا يمكن أن يتم من خلال مصادر ومراجع غربية تؤلف لحمة الكتاب وسداه الأساسيين، بما يحيط بها من التباس مفاهيمي يجعل من الصعب تفكيك الهيمنة الغربية انطلاقًا مما تقوله بعض هذه المصادر الغربية نفسها، حتى إذا كان حوار الكاتب معها يتم على نحو نقدي محلل ومعترض. فضلا عما تنطوي عليه هذه المركزية الغربية عند حديثها عن علاقة حاضر الغرب بماضيه من حقائق غير قابلة للدحض، مستمدة من طبيعة هذه العلاقة غير المنقطعة بينهما، وما يعنيه ذلك من جعل التاريخ الغربي الحديث برمته مختلفاً عن الغياب والانقطاع الذي يسم هذه العلاقة عندنا بين حاضرنا وماضينا. وصراع أوديسوس مع العمالقة الذي يجعله "المستنير الأول" في الثقافة الغربية عند مفكرين مثل أدورنو، وهوركهايمر، يختلف في نتيجته عن صراع كلكامش مع الرجال العقارب، وصراع "الصياد مع العفريت" الخارج من قمقم الزمن في الليالي العربية والحياة العربية، ما دامت نتيجة الصراع الأول هي خروج المجتمعات الغربية من كهوف القرون الوسطى نحو عصر الأنوار والتقدم المضطرد بعد الانتصار على أولئك العمالقة، في حين ما زالت بلاد الرافدين، وشرقنا العربي حتى الآن، وبعد كل تلك الصراعات الحقيقية والمجازية، عرضة للدغات أولئك الرجال العقارب، وهيمنة "العفريت" القديم – الجديد، بأشكاله الرمزية والمادية المختلفة. وما كتبه توفيق الحكيم في مسرحيته "أهل الكهف" ما زال صالحاً للاستشهاد به للدلالة على الوضع التاريخي الصعب الذي وجدنا نحن العرب فيه أنفسنا مطلع القرن الماضي والذي سبقه، غرباءَ عن عصرنا وزمننا لدى المقارنة بالثقافة والحضارة والتكنولوجيا الغربية الوافدة.
ولعلّ جانباً من المشكلة التي يعاني منها كتاب الغانمي المذكور في رأينا، تكمن في هذا النوع من "التعميم" الذي يصرّ المؤلف على إضفائه على مجمل الوقائع الفكرية والتاريخية المدروسة على وفق نظريته في مبدأ الاسم أو بلاغية المعرفة. ومعروف لنا كيف أن غاستون باشلار قد جعل من هذا التعميم "عائقًا ابستمولوجيا" على الرغم من أن هذا التعميم يحاول أن ينقل الفكر التاريخي من تبدّد الوقائع إلى وحدة القوانين التي تفسّرها، ولكنه يصبح عائقا عندما يكون استجابة لمتعة عقلية، فيكون متسرعاً وسهلاً ويعوق الوصول إلى حقيقة الظواهر، أو كما يقول باشلار: "هناك في الواقع متعة عقليّة خطرة في تعميم متسرّع وسهل. وعلى التحليل النفسي للمعرفة الموضوعية أن يمتحن كلّ إغراءات السهولة. فبهذا الشرط سنصل إلى نظرية التجريد العلمي السليم حقاً والدينامي حقاً.
وأخيراً أود هنا أن أورد نصاً من كتاب ميشيل فوكو في "الكلمات والأشياء" الذي ذكرت من قبل أن هناك علاقة منهجية ما، بينه وبين كتاب الغانمي هذا، مع أنّ كتاب فوكو هذا ليس من بين مصادر كتاب الغانمي الكثيرة.
هذا النص الطويل، سيكون، كما نعتقد، ذا دلالة خاصة في مجمل المفهوم الخاص باللغة بعد العصر الكلاسيكي الأوروبي كما يتحدد عند فوكو، فيما لم يقم كتاب الغانمي بعملية الفصل بين فاعلية الخيال وبلاغة اللغة في العصور التاريخية المختلفة بهذا الشكل على نحو واضح وصريح:
"لقد تجاوزنا نهائياً العتبة الفاصلة بين الكلاسيكية والحداثة عندما لم تعد الكلمات تتقاطع مع التمثيلات، وتحدد عفوياً معالم معرفة الأشياء. فلقد استعادت الكلمات في أوائل القرن التاسع عشر كثافتها اللغوية القديمة، لكنها لم تسترجعها لتلج مجدداً العالم الذي كانت تسكنه في عصر النهضة، ولا لتختلط بالأشياء ضمن نظام إشاري دائري. منذ أن انفصلت اللغة عن التمثيل لم يبقَ لها وجود، وحتى يومنا الحاضر إلا تحت شكل مبعثر: فبالنسبة لعلماء اللغة، تعتبر الكلمات كما لو كانت أشياء كوّنها التاريخ ووضعها في متناولنا، وبالنسبة لأولئك الذين يبغون التشكيل، على اللغة أن تتجرّد من مضمونها الحسّي لتبرز فقط قوالب الخطاب المقبولة كلياً، وإن أردنا التفسير، غدت الكلمات نصاً يجب تهشيمه حتى يظهر جليّا ذلك المعنى الآخر الذي تخفيه، ويحدث أخيراً أن تبرز اللغة لذاتها في فعل كتابة لا يشير إلا إلى نفسه".
وفي ختام هذه القراءة الأولى أو الأولية لهذا الكتاب الذي يصعب تلخيصه أو مناقشة كل ما يثيره من قضايا ومسائل أدبية وفكرية ولغوية وتاريخية تستدعي التأمل والحوار، ولا يمكن بحال قول الكلمة الأخيرة فيها لاتساعها وطرافتها وتعدد مناحيها. أستطيع القول بأن القارئ سوف لا يجد في قراءته لهذا الكتاب متعة سردية فقط، كما يتمنى المؤلف على هذا القارئ في ختام مقدمته، بل أيضا متعة فكرية ومعرفية وتحليلية كبيرة.
والجدير بالذكر هنا أيضا أنَّ الغانمي يقول إن كتابه هذا هو مجرد إعلان عن بداية مشروع، وأن لديه كتباً أخرى مقبلة لإكماله.