د. خالد عليوي العرداوي
الحروب، وهي أقسى التجارب التي تمر بها المجتمعات؛ كونها تفقرها اقتصاديا، وتضعفها اجتماعيا حتى لو كسبتها عسكريا، فما بالك لو خسرتها؟، وكلما كثرت الحروب وطالت زادت نتائجها الكارثية على المجتمع والدولة، ولذا قيل إن أفضل انتصارات الشعوب هي الانتصارات التي تتم بلا حرب، وإذا اضطرت اليها فينبغي ألا تزيد عن حرب واحدة خلال الجيل الواحد.
القيم المدنية هي مجموعة من المعايير التي تنظم علاقة الأفراد بينهم وبين أنظمتهم الحاكمة مثل: احترام القانون، احترام الملكية، احترام الرأي والرأي الآخر، التسامح، العدالة، الحرية، الشعور بالمسؤولية، الانضباط، الاعتدال، المبادرة، الشجاعة، الصدق، النزاهة...الخ.
وترتبط هذه القيم بالتمدن والمدنية، فهي ضد نوعي للبدائية والتوحش؛ كونها تحافظ على التماسك والوحدة ومد جسور الثقة والتعاون بين الأفراد أنفسهم من جهة، وبينهم وحكوماتهم من جهة أخرى، لتصبح المجتمعات قوية، مستقرة، ومتقدمة...لا على المستوى النظري فحسب، بل على المستوى التطبيقي -أيضا- من خلال أنماط السلوك السائدة في التعامل مع وجهات النظر المختلفة، ومعالجة المشكلات، ومجابهة المخاطر والتحديات، وفاعلية القوانين والمؤسسات، والعمل على بناء المستقبل المشترك لجميع افراد المجتمع بمختلف إثنياتهم وانتماءاتهم الفكرية.
وتكمن قوة القيم المدنية في قدرة المجتمعات على تحويلها، من مجرد أفكار تجول في العقول والضمائر إلى قواعد وأنظمة تحكم تصرفات الناس والحكومات؛ كاشفة عن متانة ورقي نظامها الأخلاقي، وقدرتها على ايجاد نظام حكم عادل يحافظ على مصالح المجتمع والدولة، ويحترم حقوق وحريات الأفراد في الوقت نفسه، فالعلاقة طردية بامتياز بين صلاح نظام الحكم وصلاح النظام الأخلاقي، بحكم علاقة التأثير المتبادل بين الاثنين، فقيمة المؤسسات لا تظهر من خلال عظم هياكلها الخرسانية، ودقة وعدالة قوانينها، وتكامل بناها التحتية المادية، بل تظهرها طبيعة الأفراد الذين يقومون بإدارتها، ويسهرون على تطبيق قوانينها وأنظمتها... وعندما يفتقر هؤلاء الأفراد إلى قيم مدنية تضبط تصرفاتهم عندها يتحولون من بناة لدولهم إلى معاول تدمر المؤسسات، وتشوه تطبيق القوانين ما يحرفها عن دورها الصحيح المتوقع منها.
لقد دفع التأثير المتبادل بين النظام الأخلاقي ونظام الحكم إلى اعتقادات راسخة مفادها: لا وجود لنظام حكم جيد، بدون وجود نظام أخلاقي جيد، ولكن ما الذي يفسد النظام الأخلاقي ويحوله من نظام مدني القيم إلى نظام بدائي القيم؟.
لا يوجد في العالم شيء اسمه مجتمع جيد، ومجتمع سيئ بالفطرة، فجميع المجتمعات جيدة بفطرتها، ولكن ما يفرق بعضها عن البعض الآخر، هو طبيعة التجارب التي تخوضها هذه المجتمعات، ومدى تعلمها من تجاربها، فهناك مجتمعات تكرر أخطاءها فتعيش العنت والمصائب، ومجتمعات تتجنبها فتحولها إلى فرص للتطور والارتقاء.
ومن يتابع الصنف الأول من المجتمعات يجدها تدور في دوامة من الأمور السيئة، ولوقت طويل من حياتها، دون أن تجد لنفسها المخارج الصحيحة من هذه الدوامة الملعونة، إذ تتحكم بمصيرها جملة من الأسباب المدمرة لقيمها المدنية، منها:
- سيادة الأفكار المتعصبة، وتلاقح النظام الأخلاقي ونظام الحكم بها؛ لتوظيفها في خدمة طموحات ومصالح مختلفة.
- الحروب، وهي أقسى التجارب التي تمر بها المجتمعات؛ كونها تفقرها اقتصاديا، وتضعفها اجتماعيا حتى لو كسبتها عسكريا، فما بالك لو خسرتها؟، وكلما كثرت الحروب وطالت زادت نتائجها الكارثية على المجتمع والدولة، ولذا قيل إن أفضل انتصارات الشعوب هي الانتصارات التي تتم بلا حرب، وإذا اضطرت اليها فينبغي ألا تزيد عن حرب واحدة خلال الجيل الواحد.
- التطرف الديني؛ وجدت الأديان لتعزيز التسامح والمحبة بين الانسان وأخيه الانسان، ولكن عندما توظف سياسيا وعقائديا في تشظي المجتمعات وانقسامها مذهبيا ودينيا بفعل اعتقادات وتصورات خاطئة، تصبح أداة من أدوات تدمير القيم وبث الكراهية والقسوة بين الناس.
- الفساد؛ فهو آفة مدمرة للقيم المدنية، وكلما ارتفعت مؤشراته، ارتفع الشعور بعدم العدالة الاجتماعية، وغلبت اللامبالاة على سلوك الافراد، وسادت بينهم قيم متردية مثل: الخيانة، وعدم احترام القانون، والظلم، وضعف الأداء، وإساءة إدارة المؤسسات وتطبيق القوانين...
- الصراع السياسي؛ فاتساع الصراع بين القيادات والقوى السياسية يصيب بقية المجتمع بعدواه الضارة، وبدل أن تكون القيادات والقوى السياسية أداة لتوحيد مجتمعها وزيادة تماسكه وتقليل حدة اختلاف الآراء والمصالح داخله تصبح أداة لتمزيقه وتشتيته ونشر الفرقة بين افراده.
- التفاوت الاقتصادي والاجتماعي؛ فالمجتمعات التي تفتقر إلى تنمية شاملة عادلة، وتشكو من اختلالات اقتصادية هائلة، وفجوات اجتماعية ظالمة، من الصعب أن يحافظ أفرادها على سلامة نظامهم الأخلاقي، وهي مستعدة لكل ما يلحق الضرر بهذا النظام، ولذا تتصاعد فيها معدلات: العنف، والجريمة العادية والمنظمة، وخرق القانون، والتفكك الاجتماعي، والتطرف الفكري والسلوكي، وانحدار مستويات التربية والتعليم...
- وسائل الإعلام؛ يمكن لوسائل الإعلام أن تكون سلاحا مدمرا للقيم المدنية، عندما تتخلى عن رسالتها الأخلاقية، وترتبط برسالة الأفراد والقوى والمؤسسات المشغلة لها.
- التطور التكنولوجي؛ إن التطور الهائل الذي يحصل في تقنيات التواصل بين الناس، وسبل حصولهم على المعلومات، يمثل خطرا حقيقيا عندما يكون خارجا عن السيطرة، ويجري في مجتمعات غير مهيأة له، لاسيما عندما يصبح الفضاء الالكتروني، بديلا عن الفضاء الواقعي في صناعة وعي الافراد والجماعات، وعندها يصبح المجتمع اسيرا لنوايا ومصالح القوى التي تتحكم بهذا الفضاء الالكتروني، ويكون الإدمان في الفضاء الالكتروني المشبوه لا يقل ضررا عن الإدمان على المخدرات، بل هو أشد وأمضى.
بناء على ما تقدم، تحتاج أنظمة الحكم والمجتمعات الحريصة على مستقبلها إلى الحفاظ على منظومة قيمها المدنية، وتجنب الاسباب التي تشكل خطرا عليها، وهنا ستبرز أهمية تفعيل دور الاسرة، والمدرسة، والجامعة، والمؤسسات الدينية، والمدنية، ووسائل الاعلام، ومؤسسات انفاذ القانون...كأدوات ناجعة ومؤثرة في حماية هذه المنظومة، وتعزيزها، وترسيخها كمصدر مهم من مصادر قوة المجتمع والدولة.
* باحث وأكاديمي عراقي