أ.د عامر حسن فياض
ان المسألة الاساسية في نظرية المفكر الفرنسي (لويس التوسر) هي مسألة (القراءة) حيث تمثل (قراءة ماركس) نقطة الانطلاق في فكر التوسر الذي قرأ (رأس المال) لابصفته اقتصاديا ولا مؤرخاً ولا اديبا، لكنه قرأه بصفته فيلسوفا يطرح على هذا الكتاب خصوصية موضوعة وخصوصيه علاقته بهذا الموضوع وتعبيره عنه.
يطرح التوسر على رأس المال تساؤله عن الفارق بين موضوع الاقتصاد التقليدي والحديث وعن موضوع مؤلفات ماركس في فترة الشباب (كتاب مخطوطات عام 1844) وعن خطابه المميز عن خطاب الاقتصاد التقليدي وكذلك عن خطاب فلسفة ماركس الشاب.
ان طرح هذه التساؤلات قاد التوسر إلى طرح اسئلة من قبيل كيف ينبغي ان تتم قراءة ماركس؟ وهو السؤال الذي يحيل بدوره إلى السؤال عن معنى القراءة. وقبل معالجة اية مسألة اخرى، ينبغي اولا إقامة توضيح التعارض بين العلم والايديولوجيا ؟ وبطريقة او بإخرى فان المسألة الاولى تتضمن المسألة الثانية اي معنى القراءة، لاننا اذا تساءلنا قرأنا ماركس فينبغي ان نجيب باننا قرأناه في اغلب الاوقات على المستوى الايديولوجي فقط. غير ان التوسر يرى ان من الممكن استخدام امكانيات جديدة في القراءة نملكها في الوقت الحاضر بفضل اكتشافات فرويد ولاكان في علم النفس والتحليل النفسي البنيوي بوجه خاص. ان الخطاب القائم على التحليل النفسي وان كان يسعف التوسر في هذا المجال لايبدو كافياً لانه يفترض الارتقاء إلى ابعد من ذلك مشيراً إلى انه انطلاقاً من ماركس ينبغي البدء بتخمين ان معنى القراءة والكتابة في النظرية هو ضرورة قطع الصلة مع الاساطير الغيبية للقراءة، اي استنطاق النص ليس فقط عما يؤكده صراحة وانما ايضا عن مجموع القضايا الاشكالية التي تولد عنها ولا يستعيدها بالضرورة دائماً وبشكل صريح في مقدمته او تمهيده . وبتطبيق هذه القراءة على ماركس استطاع التوسر ان يتلمس خطابه الخفي والصريح. وتعتمد الطريقة التي يقترحها التوسر لقراءة ماركس على منهج التحليل النصي البنيوي الذي طبقة ايضا في مجالات عديدة، لاسيما في ما يتعلق بالعلاقة بين البناء التحتي والبناء الفوقي، معتمداً في ذلك على مقولة (انطونيو غرامشي) عن توازي اهمية هذين المستويين في الواقع الحي وتأكيده على دور ماركس في استبعاد الانحراف الاقتصادي الذي يرجح دور البناء التحتي ويقدمه على غيره . ورتب التوسر على ذلك نتيجة مهمة تشير إلى طرفي السلسلة التي يكون فيها الاقتصاد حاكما للتاريخ ومتحكما فيه، ولكنه في النهاية وعلى المدى البعيد وعبر عالم من الاشكال المتعددة فان البناء الفوقي والتقاليد المحلية والظروف الدولية ... الخ سيكون لها فعلها الفاعل. ويؤكد التوسر بانه سيترك جانبا الحل النظري الذي اقترحه انجلز لمسألة العلاقة بين التحدي في المحطة الاخيرة أي الدور النهائي للعامل الاقتصادي في الحياة الانسانية والتحديدات الخاصة المفروضة من قبل البناءات الفوقية والتقاليد المحلية والاحداث الدولية مكتفياً هنا بالبقاء عند ما ينبغي تسميته بتراكم التحديدات المجتمعية المتولدة عن البناءات الفوقية والظروف الخاصة الوطنية والدولية بالنسبة للتحديد في اللحظة الاخيرة عن طريق العامل الاقتصادي.
ويطبق التوسر منهجيته هذه على الايديولوجية والجهاز الايديولوجي للدولة التي لاحظ انها تمثل طبقاً للتقليد الماركسي المهيمن آلة قسر للطبقات المهيمنة ضمان هيمنتها. واقترح ان يضيف إلى النظرة الماركسية الخاصة بالدولة بعداً آخر هو الجهاز الايديولوجي للدولة. ففي النظرة الماركسية التقليدية يوجد جهاز دولة واحد يدعى الجهاز القسري للدولة يتضمن الحكومة والادارة والجيش والشرطة والمحاكم والسجون ... الخ ويستخدم العنف المادي ولكن ضمن حدود معينة لان القسر الاداري يمكن ان يظهر ايضا بأشكال غير مادية.
ولكن إلى جانب هذا الجهاز القسري للدولة توجد العديد من الاجهزة الايديولوجية التي يقترح التوسر اضافة القائمة التالية منها إلى اجهزة الدولة وتشمل : الجهاز الايديولوجي الديني للدولة والجهاز الأيديولوجي العائلي للدولة والجهاز الأيديولوجي الاعلامي للدولة والجهاز الايديولوجي النقابي للدولة بتعدد اجهزته الفرعية وعمله عن طريق الايديولوجيا. والى هنا لم يقم التوسر بأكثر من تبسيط افكار (انطونيو غرامشي) اما مساهمته الاساسية فتتعلق بتحديده لوظيفة الجهاز الأيديولوجي للدولة بوصفه الجهاز المسؤول عن انتاج وضبط الأيديولوجية المهيمنة لضمان إعادة انتاج وسائل الانتاج لأن كل نظام اقتصادي يجد نفسه أمام واجب ضمان انتاج الاموال وإعادة انتاج وسائل انتاج هذه الاموال من خلال تعويض ما يستنفذ او يستهلك في الانتاج من المواد الاولية والمنشأت الثابتة وأدوات الانتاج.
وفي الواقع ان الاجهزة الأيديولوجية للدولة هي التي تضمن إعادة انتاج الجزء الاكبر من علاقات الانتاج من خلال برامج للتأهيل الأيديولوجي والمهني للقوى العاملة وترسيخ خضوعها لعلاقات الانتاج القائمة متحصنة في كل ذلك بقوة الجهاز القسري للدولة وتلك هي المقولة التي جاء بها التوسر على مستوى الفكر السياسي وقراءة نصوصه وتفسير احداثه .. وهكذا فان مسألة القراءة الحقة للنصوص والاحداث ومعنى القراءة لابد ان تكون نقدية قائمة على زمانية ومكانية النص أو الحدث دون التشفي من سلبياتها ودون التطير من ايجابياتها.