ابراهيم العبادي
قلق كبير يسود في اوساط عديدة خارج الولايات المتحدة، سببه تشكيلة ادارة ترامب الجديدة. صقور متشددون، ووجوه اشتهرت بخطابها اليميني المباشر الصادم، ورجال ونساء لا يخفون انحيازاتهم في قضايا كبرى، ابرزها الشرق الاوسط (تأييد مطلق لاسرائيل، عداء علني بلا حدود لإيران وحلفائها واتباعها).
من راقب قائمة ترشيحات ترامب لشغل مناصب وزارات الخارجية والدفاع ومستشارية الامن القومي، وادارة الاستخبارات الوطنية ورئاسة الاستخبارات المركزية، ومندوبية اميركا في الامم المتحدة وسفارة اميركا في اسرائيل، كلها تشير إلى أن ثمة هجوما سياسيا ودبلوماسيا واقتصاديا ترامبيا كبيرا سيجتاح العالم، هدفه تحقيق شعارات ترامب (اميركا اولا، اعادة اميركا عظيمة مجددا، السلام من خلال القوة). ستمارس هذه الادارة سياسة العصا والجزرة في علاقاتها مع الخصوم والمنافسين، الضعفاء والاقوياء على حد سواء. أدوات هذه السياسة هي: اقبل ما نعرضه عليك من صفقة أو تحمل عواقب الرفض والعناد، وجميع الصفقات التي ستعرض للتفاوض، تتضمن رؤية اميركا الترامبية أمنيا واقتصاديا وسياسيا. ترامب لا يريد حروبا جديدة، يريد سلاما وهدوء، يسمح له ان يركز جهوده على اولوياته الداخلية والخارجية، لكن هذا السلام سيكون مخدوما ومفروضا بالقوة، بمعنى أن أطراف الخصومة عليها ان لا تشك او تقلل من جدية ادارة ترامب في استخدام القوة، فالدعوات الترامبية للسلام وانهاء الحروب ليست بلا ثمن. ستكون بثمن وربما بثمن كبير، فعلى اوكرانيا مثلا ان تتنازل لروسيا لكي تظفر بالسلام والامن، والا فانها ستظل تحارب بلا مساعدات اميركية سخية. وعلى الفلسطينيين واللبنانيين ان يقبلوا بالمقترحات الاميركية المنحازة للكيان الصهيوني لكي تتوقف آلة التدمير والابادة الاسرائيلية عن العربدة. اما إيرانيا فإن طهران فهمت التغيير الاميركي وعودة صاحب الضغوط القصوى مجددا إلى البيت الابيض، فتحركت صوب التفاوض والتفاهم وبادرت إلى ارسال الرسائل والاشارات (رسالة عباس عراقچي وزير الخارجية الداعية إلى مغادرة سياسة الضغوط القصوى إلى تجريب العقلانية القصوى، ثم اللقاء المباشر بين اشهر رموز ادارة ترامب الجديدة، الملياردير ايلون ماسك ومندوب ايران الدائم في الامم المتحدة سعيد تخت روانجي في مكان سري لمدة ساعة، ثم ذهاب مستشار المرشد الاعلى علي لاريجاني إلى بيروت لدعم اي مقاربة لبنانية لاعادة موضعة حزب الله في المعادلة الامنية والسياسية في لبنان والسماح لجهود وقف الحرب وعودة النازحين).
عراقيا، كثيرا ما يطرح السؤال التالي: ما موقع العراق في سياسة ترامب الشرق اوسطية؟.. يليه السؤال الأهم: كيف نتصرف لنتقي شرور هذه السياسة ونمضي بهدوء وسلام لمواجهة التحديات التي تواجه بلادنا؟.
يختلف العراقيون بطبيعة الحال في التوافق على سياسة موحدة خارجيا، خصوصا في شكل العلاقة مع الولايات المتحدة. وبوضوح متناه، هناك رؤى عراقية مختلفة ولوبيات تعمل في واشنطن لخدمة بعض تلك الرؤى، فهناك رؤية كردية واخرى سنية وثالثة شيعية، وكل رؤية تنطلق من قراءات لمصالح المكون!! وليس بالضرورة مصالح العراق، غير ان الحد الادنى من التوافق النظري موجود لدى الاغلبية العراقية، توافق يرى ضرورة ابعاد العراق عن اي شكل من اشكال التوتر والعداء مع اميركا، ليس حبا بأميركا وسياساتها، ولا لرغبة في نيل حظوة لدى ساكن البيت الابيض، انما تقديرا لظروف العراق واحواله، ورحمة وشفقة على شعبه الذي يرنو إلى الهدوء والسلام والاستراحة من الحروب التي دمرت البشر والحجر. العراق الذي يتعافى ببطء ويكافح اقتصاديا لتجاوز معضلات جمة، يحتاج إلى تقدير المخاطر بعقلانية وعمق وموضوعية متناهية، هناك مخاطر تلوح في الافق، ابرزها خطر انهيار اسعار النفط بعد الصعود القوي للانتاج الأميركي، والتوقعات بمزيد من الاستثمار المدعوم من ترامب للحفر اكثر واكثر، وزيادة الانتاج إلى مستويات قياسية جديدة (قد تصل إلى 15 مليون برميل يوميا)، مما يجعل العراق تحت مطرقة الضغوط المالية القصوى مضافا اليها تشدد الخزانة الاميركية مع البنك المركزي العراقي والنظام المصرفي العراقي، المتهم بالتحايل على العقوبات الاميركية ! .
ترامب وادارته ينظرون إلى العراق من زاوية نظرتهم ومقارباتهم للملف الإيراني. العراق في مرتبة ثانوية في الاجندة الاميركية منذ سنين. ترامب يعتبر العراق فرصة مهدورة وصداعا مزعجا لاميركا، فالامريكان غير مستعدين لترك العراق حتى يملأ فراغ انسحابهم خصومهم اللدودون، ولا هم بصدد ايلاء العراق اهمية كبيرة بعد تراجع اهميته في استراتيجية اميركا الشرق أوسطية امنيا وسياسيا وحتى اقتصاديا. هناك عامل ثالث كبير الأثر، يتعلق بالعراقيين أنفسهم، فهم لم يحسموا أمرهم فيما يريدون لبلدهم من موقع في خريطة التفاعلات الدولية والإقليمية، فهم يريدون دورا محوريا يوازي ثقل العراق الاقليمي وفي ذات الوقت يتيهون في ضبط مساحة هذا الدور ومتطلباته. فهل يريدون علاقات مع اميركا ام لا.. وبأي شروط؟ اذا كان الجواب نعم، ماذا بوسعهم ان يقايضوا واشنطن لكي تهتم بهم وتضعهم في الموضع الذي يؤثر في حساباتها واجندتها بما يدفعها لدعم العراقيين في خياراتهم ويحقق لهم اهدافهم الوطنية؟.. واذا كان الجواب ب (لا)، فعليهم ايضا ان يستعدوا لتحمل كلفة ذلك، ويوطنوا انفسهم على عقوبات وتدخلات وضغوط قصوى، أولها الغاء استثناءات استيراد الغاز وتمويل الاستيرادات من ايران، وانتهاء باعادة العراق إلى لائحة الدول التي تهدد المصالح والامن القومي الاميركي!، وهذه يافطة خطيرة لها تبعات كبيرة لا يتحمل العراق عواقبها وهي بالمصطلح الشرعي (تكليف بغير المقدور)، وهناك من يدفع باتجاهها في أوساط النخبة الاميركية.