تأملات معرفيَّة في الشخصيَّة العراقيَّة

ثقافة 2024/11/19
...

 مرتضى النداوي

إن من يقرأ كتاب لقمان عبد الرحيم الفيلي الموسوم "الشخصية العراقية.. بين أجواء المقاهي والقصور والمآذن" الصادر عن دار ومكتبة الرواق العام 2024،  يدرك أن الكاتب يجمع بين الذهنية الرياضية المنطقية وبين الفهم التأويلي الذي أسس له فيلهلم دلتاي ومن قبله، جان باتيستا فيكو، وآخرون قد دفعتهم الحاجة إلى الاجتراح، لأن المجتمع بإطلاقه فضاء لالتقاء كل ما هو إنساني وعلمي صرف، وهذا يكشف عن إمكانية عالية في تفكيك الظواهر الإشكالية وإعادة تركيبها بصورة منتجة للحلول المتوخاة والمرجوة، خاصة في ما يتعلق بظاهرة خطيرة كالمجتمع، الأمر الذي يفضي بطبيعة الحال إلى تشوّف وملاحظة الموضوعات بطريقة متعددة الأبعاد، فأغلب تفرعات العلوم الإنسانية تعطي منظارًا واحدًا أو قل ـ إطاراً تحليلياً أحادياً- وهو السبب الذي جعل أغلب علماء ومجددي الايبستمولوجيا الاجتماعية والانثروبولوجيا، يتسلحون بمقتربات وأدوات متعددة ومتنوعة في البحث والمعالجة أو أن يجمعوا بين اختصاصين أكاديميين. كما هو الحال مع:
1. تيم أنغولد (Tim Ingold): انثروبولوجي بريطاني يستفيد من علوم البيئة والهندسة لفهم تفاعل البشر مع البيئة. قدم إسهامات بارزة في "انثروبولوجيا الإدراك"، مستفيداً من مفاهيم العلوم الطبيعية.
2. لوسي سوشمان (Lucy Suchman): بدأت كمهندسة نظم وعالمة حاسوب، ثم تحولت إلى الانثروبولوجيا الاجتماعية لدراسة تفاعل البشر مع التكنولوجيا. عملها مع "زيروكس" فتح آفاقاً جديدة حول تصميم التكنولوجيا بناءً على السلوك البشري.
3. برونو لاتور (Bruno Latour): فيلسوف وعالم اجتماع فرنسي، اشتهر بنظرية "شبكة الفاعل-الشبكة". تناول كيف يؤثر العلماء والمهندسون في تشكيل المعرفة العلمية، معتبراً العلوم الصرفة جزءاً من النسيج الثقافي.
4. برايان آرثر (W. Brian Arthur): اقتصادي يدرس الأنظمة المعقدة كالتحول والابتكار التكنولوجي وتطوره، ويربط الاقتصاد بالانثروبولوجيا لفهم تأثير التكنولوجيا على المجتمعات.
5. ديبورا هيث (Deborah Heath): انثروبولوجية تدرس تقاطع التكنولوجيا الحيوية والهندسة الوراثية مع الثقافة. أبحاثها تركز على تأثيرات التطبيقات البيولوجية في المجتمعات.
6.بيتر جاليسون (Peter Galison): مؤرخ فيزياء يدرس كيف تُبنى المعرفة العلمية في المختبرات. يقدم مقاربة انثروبولوجية لدراسة الثقافة العلمية وتشكيل المجتمعات العلمية.
والحال ينطبق مع الأستاذ لقمان الفيلي في الجمع بين عدد من التخصصات الأكاديمية كالرياضيات وعلوم الإدارة، ومن ناحية أخرى فإن تجربته تربو على الباقين، بوصفه ممارسًا ومراقبًا ومواطنًا، عمل في أجهزة الدولة المختلفة، على مدار الخمس عشرة سنة الماضية. والحق أنه قد وضع على أساس ذلك اثني عشر سؤالًا إشكاليًا حول المتغيرات الرئيسة (الثقافة، الدولة والدين)، أي إنه عالج الثلاثية بطريقة تكاد تتسق مع علم (التريبولوجيا(Tribology، الذي اتخذته عنوانًا ومنهجًا في مشروع أطروحتي لمعالجة مديات التأثير والتأثر في فضاء التفاعلات العالمية. أما في المصنف محل المراجعة فإنه قد تطرق إلى ما ورائيات المتغيرات الرئيسة الثلاثة، مثل فهم مديات تأثير كل من الجيوبوليتيكا في بعدي المخرجات والانسحابات، والكيفية التي تؤثر من خلالها الهزات العنيفة كالاستعمار والحرب والاحتلال في صياغة سايكولوجيا المجتمع العراقي والأهم من ذلك تشكُل هويته ومستقبله بأبعاده الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. إن الفصل الأول من الكتاب قد تم الإبحار فيه لفهم الأبعاد الثلاثة (الثقافة، الدولة، الدين) وتعريفاتها وتفاعلاتها البينية وترابطها مع خصائص الشخصية العراقية، أما الفصل الثاني فقد سلط الضوء على الواقع القائم وماهية الأدواء العراقية وتحدياتها الاجتماعية والسياسية، وكذلك ارتدادات الدكتاتورية والعشائرية وضعف اللحمة الوطنية، الجنبة المفضية إلى تآكل الهوية بطبيعة الحال. أما الفصل الثالث فيقدم هالة من المعالجات التي من الممكن أن تحلحل المشكلات العالقة بشأن المجتمع والدولة، من خلال ثلاثة عشر مقترباً، إلا أنني أعتقد أن نهايات الفصول أمر في غاية الأهمية، إذ إن كل فصل ينتهي بتناول إشكالية مع عدد من الفرضيات، فبالرغم  من أن الفصل الأول قد غار عميقًا في الأبعاد الثلاثة المتداخلة والمتفاعلة بشكل معقد بالصورة التي من المفترض أنها تنتج "قيادات تاريخية" إلا أنه لم يتم اغفال الواقع المختلف تمامًا لذا يقدم الباحث مبحثًا متكاملًا في أسباب "شح القيادات التاريخية". ولكن المهم جدًا قُدمت ثلاث عشرة نقطة كأسباب لشح القيادة، تنقسم بين الذاتي والموضوعي، وصحيحٌ أن العالم الغربي المعاصر أمسى لا يكترث للقيادات؛ لأن النظم الاجتماعية والسياسية هناك أنتجت تقاليد وقيماً وممارسات تركز على الرفاه أكثر من الاكتراث بمن وكيف يقود الدولة ويستوعب مآلات العلاقات الدولية، لأن مسائل كالحقوق والحريات الأساسية أضحت أموراً مفروغاً منها، والأمر برمته لا ينطبق على باقي الأمم كما هو موجود في الصين الشعبية وروسيا الاتحادية ودول أميركا اللاتينية وأفريقيا وجل دول الشرق الأوسط، والسبب في ذلك أننا في العراق وبعض الدول الأخرى ما زلنا نتأرجح بين الأهداف الأربعة للأمن القومي في مطلقه: الأمن، الازدهار، الحفاظ على القيم ونشرها فبعد زهاء العشرين عاماً، ما زال تحقيق الأمن أمراً صعباً، فكيف يتحقق الازدهار إذا كان الأمن وهو الصرح الأساس الذي يبنى عليه الأول؟ وهو حال أغلب الدول خارج الفلك الغربي خلا الصين وروسيا؛ لأن الأمر متعلق بالهيمنة ونشر القيم ومستقبل النظام العالمي، إلا أن تعقدات أوضاع الصين وروسيا في الخمسين سنة الماضية على الأقل أنتجت نخبة من القادة الذين جعلوا أممهم في طليعة أمم العالم الأخرى. لذا فإن العراق بحاجة إلى قيادة تنتشله مما هو فيه، ولم يخطئ الأستاذ لقمان في اختيار المفردة "شح" وهي لا تعني الانعدام التام، فالممكنات Potentials غير منتفية.
أما الفصل الثاني فقد انتهى بسؤال مستفز جدًا من الناحية المعرفية ألا وهو "ما الأمة العراقية؟" إذ ركز القسم الأول من المبحث على ماهية الأمة تعريفًا وشرحًا ومن ثمة مقابلة ذلك مع واقع العراق الاجتماعي بصورة معيارية توضح أن العراق متنوع اجتماعيًا جراء ديناميكيات عدة ليست بالضرورة مثالب ومؤاخذات، بل يمكن العمل عليها بصورة تنتج روابط وشيجة بين المكونات، ومن ثم قد عولجت في نهاية المبحث أربع نقاط: (الإرث التاريخي، التماسك الإقليمي، الرموز والمؤسسات الوطنية، التحديات والتطلعات المشتركة) التي تعمل بصورة إيجابية وبشكل مباشر على التقريب وجعل التنوع متناغماً، هذا من جهة ومن جهة أخرى وعلى صعيد شخصي أعتقد أننا كعراقيين وعلى مستوى المكونات لا نفهم مخاوف بعضنا البعض على المستويين العمودي والأفقي، وإذا ما تفهمنا ذلك  سنتدارك الكثير من المشكلات ونرأب الصدوع ونعالج العلل الاجتماعية. دون اللجوء إلى الوسطاء الخارجيين لحلحلة أمورنا الداخلية، وأما الفصل الثالث الذي حمل عنوان "آفاق عدة للمستقبل والطريق نحو التقدم"، فقد كُرس لتحليل الجيوبوليتيكا ومآلاتها وضرورة فهم مدخلات الفعل الإقليمي ومن ثم معالجتها بكيفية تخرج أفعال إيجابية وتفاهم مع دول الجوار مبنية على اتساق بين الوظيفة والدور المرام على الأقل في فضاء التفاعل الإقليمي أو باختصار استنطاق الجيوبوليتيكا، وكذلك الجزء الآخر من الفصل قد اهتم في طرائق الهندسة والإصلاحات الاجتماعية، وسيرة السيد السيستاني بوصفه نموذجاً للقيادة التاريخية في قضايا شتى مثل محاربة الإرهاب والقرارات المتزنة خلال الأزمات التي مرت على العراق خلال العشرين سنة
الماضية.
في محصلة المراجعة وجدت أن هذا الكم من المعلومات والتحليلات بشأن الشخصية العراقية والخوض في الممكنات قد جمعت وعجمت في ٢٥٤ صفحة، وهو أمرٌ يدل على الاقتصاد في المعرفة وتجنب الإسهاب والاجترار، ولكن من ناحية أخرى أعتقد أن الفصول الرئيسة مع الكثير من العناوين الفرعية مشاريع لبحوث منفردة ومتميزة تعالج كل منها إشكاليات معرفية مهمة تخص الشخصية العراقية وبنية المجتمع العراقي. وإن الأسئلة التي وضعها الأستاذ لقمان الفيلي في نهاية بحثه تكشف عن نظرة شاملة ومفاتيح للتعمق  في جوانب المشهد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي المختلفة، في ماضي وحاضر ومستقبل العراق، وتوفر إطار واسع لمزيد من البحث والتحليل في الشخصية العراقية.