التفسير حين يتغير

ثقافة 2019/06/28
...

هدية حسين
كثيرة هي المعلومات والتفاسير والنظريات التي تتغير بمرور الزمن في مختلف المجالات، يلقى بعضها قبولاً عند الكثيرين بعد التغيير فيما يبقى البعض الآخر متمسكاً بقناعاته الأولى.. أقف اليوم وأمعن النظر في اللوحة الشهيرة “الصرخة” للفنان النرويجي إدفارد مونش، التي رسمها في العام 1893 وتعدُّ من أشهر أعماله ضمن سلسلة من اللوحات أسماها إفريز الحياة.
الشخص الذي يقف في مقدمة اللوحة، واضعاً كفيه على أذنيه وفاتحاً فمه وتبدو عيناه ميتتين، ومن خلفه يظهر خليج أوسلفورد في أوسلي، هو شخص مرعوب للغاية، شخص يصرخ لما يرى ويسمع، ويمكننا أن نتمثل هول ما يراه من شدة رعبه الذي جسده مونش في هذه اللوحة التي أصبحت ملهمة الشعراء لعشرات السنين، وقيل إن شهرة اللوحة جاءت من شحنة الدراما المكثفة والخوف الوجودي الذي تجسده، وإنها ترمز الى ذروة القلق.
ومن ينظر الى الوجه الآدمي المرعوب قطعاً سيتساءل: ترى ما الذي رآه هذا الشخص ليصرخ هذه الصرخة؟ وقد تناولتها مئات الدراسات والبحوث والمقالات لتفسير تلك الصرخة، وأتذكر أنني كتبت ذات مرة مقالة أقارن بين هذه اللوحة وصورة فوتوغرافية لطفلين عراقيين لا يعرفان إدفارد مونش ولا لوحته، طفلين مرعوبيين أشد الرعب من هول ما يحدث أمامهما في سنوات القتل المجاني، صورة رسمها قدر عراقي أهوج، بالطريقة نفسها التي ظهر بها بطل لوحة الصرخة وبكثافة حزن وخوف أشد، لكن الفرق أنَّ ما رسمه مونش شيء متخيل، وما التقطته العدسة العراقية رعب حقيقي على أرض الواقع.
اليوم يأتي تفسير جديد يدحض التفسير الذي قرأناه وتبنيناه طيلة الزمن الذي مضى، فقد أعلن المتحف البريطاني من خلال تصريح له يقول، (إن الرجل الذي ظهر في لوحة إدفارد مونش لم يكن يصرخ بل كان يستمع الى الصراخ) فهل علينا أن نعيد النظر بما أقنعتنا به مئات الدراسات في السنين الماضية؟ لنعد الى الوراء، الى ما قبل رسم اللوحة، حيث يقول مونش (كنت في الطريق بصحبة صديقين، وكانت الشمس تميل الى الغروب، عندما غمرني شعور مباغت بالحزن والكآبة، وفجأة تحولت السماء الى لون أحمر بلون الدم، توقفت وأسندت ظهري الى القضبان الحديدية من فرط إحساسي بالإنهاك والتعب، واصل الصديقان مشيهما، ووقفت هناك أرتجف من شدة الخوف الذي لا أدري سببه أو مصدره، وفجأة سمعت صوت صرخة عظيمة تردد صداها طويلاً عبر الطبيعة المجاورة) لنركز على عبارة “ سمعت صوت صرخة عظيمة” والتي لا لبس فيها، أي أنه سمع، وليس صرخ، فالصرخة خارجية سمعها الشخص فوضع كفيه على أذنيه ليتقي هولها وفتح فمه رعباً لما يسمع، وبهذا الإحساس نقل مونش ما يشعر به الى رجل اللوحة الذي يحاول أن يسد أذنيه لما يسمع، وما سمعه مونش ليس حقيقياً وإنما إحساس مخيف له علاقة بحالته النفسية في تلك اللحظات (وكانت الشمس تميل الى الغروب، وفجأة غمرني شعور مباغت بالحزن من فرط إحساسي بالإنهاك والتعب... ووقفت هناك أرتجف من شدة الخوف... إلخ) أي أن مونش كان يعيش حالة نفسية سيئة جعلته يسمع صرخة عظيمة نقلها فيما بعد الى هذه اللوحة، وهناك الكثيرون في هذا العالم الذين يسمعون أصواتاً تؤثر على حالتهم النفسية والعقلية، وكلنا يتذكر فرجينيا وولف التي كانت تسمع أصواتاً فانتهى بها الأمر الى الانتحار.
يبدو أن تفسير المتحف البريطاني هو الأقرب الى المصداقية من جميع ما كتب عن لوحة الصرخة، وآن لنا أنْ نعيد النظر في ما كنا نعتقده بالنظر ملياً الى اللوحة، وبما قاله مونش قبل الشروع في رسم لوحته الشهيرة التي وصل سعرها في آخر عرض لها مئة وعشرين مليون دولار.