د. عبدالواحد مشعل
يواجه الإنسان العراقي اليوم تحديات كبيرة في مجال إشباع حاجاته الأساسية في زمن تزداد فيه بشكل مستمر ،ما يجعل دراستها ميدانياً أمراً أساسياً في فهم أولوياتها ، ولعل ذلك يتطلب تعداداً سكانياً تسجل فيه كل حاجات الإنسان الأساسية التي يحتاجها في ظروفه الآنية والمستقبلية من أجل تحقيق خطة تنموية شاملة تعطي هذا الإنسان حقه الطبيعي من العيش الكريم.
يبقى علم الإنسان (الانثروبولوجيا) علماً محورياً حيوياً لفهم تلك الحاجات في سياق الثقافة السائدة، فهو يمتلك القدرة الفائقة في كشف الأنماط السلوكية في المجتمع وتوجهات الفرد وطموحاته، لما للأنثروبولوجيا من القدرة على التعامل مع ثقافة الإنسان بمختلف بيئاته الاجتماعية ،الريفية والحضرية وعلى مختلف مستوياته الثقافية، ، واتسعت أُطره النظرية، وكثرت اشتقاقاته الفرضية، حتى أصبح هذا العلم يحظى بمراكز الأبحاث المستقبلية معتمدة على قدراته في ترجمة السلوك المتوقع الذي يبرز في أي ثقافة، ولعل هذا يؤشر على قدرة العلم على الدخول في حقول كثيرة مرتبطة بالإنسان مثل علم النفس والسياسة والاقتصاد وغيرها في إطار فروعه التطبيقية التي تحلل ذلك على أساس المعطيات الميدانية، التي تفرزها فنون هذا العلم وقدرته على التوغل في قاعة المجتمعات وتعطي تصوراتها عن طبيعة السلوك الاجتماعي الذي ترسمه ثقافة تلك المجتمعات، لذا ازداد اهتمام المجتمعات المتقدمة في الاعتماد عليه لمعرفة آليات السلوك للمجتمعات التي يتم التعامل معها في الجوانب المختلفة توافقاً أم صراعاً, لذا ينبغي على وزارة التخطيط والتعاون الإنمائي أن تولي هذا العلم اهتمامها الخاص والإفادة من منهجيته بما يخدم التحولات الثقافية في مجتمعنا من أجل أن تكون خريطة التنمية مبنية على معطيات التعداد للسكان الذي يعد المرجع الأساس لأي تنمية قادمة مع الإفادة من القدرات التخطيطية في الاختصاصات ذات العلاقة والتفاعل مع علم الإنسان لما يمتلكه من قدرات كبيرة في فهم حاجات الإنسان العراقي وأولوياتها.
إن إجراء تنمية ناجحة في بلد تعرض إلى أزمات متلاحقة، يحتاج إلى وقفة شجاعة تعطي للمجال العلمي فرصته في اشتقاق فرضياته من نظريات علمية في مجال الأنثروبولوجيا التنموية والتي كان لها إسهام كبير في تقدم مجتمعات مرت بظروف معقدة تمكنت من خلال العلم من أن تخرج من أزماتها وتحقق تقدماً كبيراً كما حصل في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، والعراق من البلدان التي يمتلك قدرات اقتصادية وثروات طبيعة ضخمة وعقولاً تخطيطية وعلمية تجعل ينهض بتوفر الإرادة والعزيمة لنقل البلد إلى مرحلة متطورة.
إن الحاجة إلى تعليم جيد باتت أمراً ضرورياً في قدرته على بلورة وعي اجتماعي لدى أبناء المجتمع في التأشير على حاجاته الأساسية ، وأن ذلك يفتح أمامه المشاركة في عملية التنمية ذكوراً وإناثاً ومن ثم يشعر الإنسان بحقوقه الطبيعية في الحياة التي تخرجه من أزماته ومعاناته المستمرة فإشباع الحاجات يعني تنمية الوعي نحو الهوية الوطنية والتمسُّك بها.
تميزت الأنثروبولوجيا عن سائر العلوم بأنها نظرت للإنسان بصفته كائناً فيزيقياً واجتماعياً وثقافياً، وبهذا فهي تحاكي الإنسان بكامله بعدِّه محوراً أساسياً في أي مجتمع، لذا ينبغي إعطاء الدراسات الأنثروبولوجية مجالاً رحباً في دراسة حاجات الإنسان من قاع المجتمع إلى أعلى درجات سلمه الاجتماعي،لفهم حاجات الطفولة والأسرة وأفراد المجتمع ،ذكوراً وإناثاً ، وفهم واقع ثقافة المجتمعات المحلية ، فالتعداد العام للسكان هو عملية إحصائية لابد أن تعقبها دراسات علمية ميدانية تؤشر على رغبات السكان في التنمية وما يحتاجونه منها من سكن و مستوى معيشي مقبول وبيئة نظيفة وخدمات أساسية وتخطيط حضري عصري ووسائل نقل متطورة أبرزها (المترو) والقدرة على حساب توقعات تطور المدن كل عشر سنوات ،وما يطرأ على أعداد السكان من زيادة مع الاهتمام بالتعليم والصناعة والزراعة والتأكيد على تطوير الريف بالخدمات اللازمة حتى يكون عامل جذب للإنسان وليس عامل طرد، كما ينبغي إعطاء القطاع الخاص أولوية قصوى والتأكيد على تطويره بقوانين أكثر تطوراً لمعالجة أزمة البطالة وإطلاق طاقات الإنسان في الإبداع والإنتاج من أجل تحقيق الحدّ المطلوب من الاكتفاء الذاتي.