الإعلام بين النون والميم

آراء 2024/11/28
...

 سوسن الجزراوي

 

بسرعة الصاروخ وربما أسرع، انتشرت خلال السنوات الأخيرة ظاهرة الإعلانات ( الممسوخة)، في وسائل التواصل الاجتماعي، والمحافل الإعلامية، حتى غدت أشبه بظاهرة مسلّم بها من ناحية، و(مصدر رزق) من ناحية أخرى !

قد تبدو القضية حتى الآن، حالة طبيعية لا تستدعي مناقشتها، فالساحة مفتوحة والأرزاق (على الله)، وعند هذه الجزئية فقط، أنا على اتفاق تام معكم ولا مجال للاختلاف! ولكن حين تتحول هذه الظاهرة إلى صورة مشوهة، تتغلغل في أروقة الساحة الإعلامية، عندها تصبح حالة مثيرة للنقاش والجدل بل وربما (للشفقة)، فالعديد من الفنانين والإعلاميين المعروفين، تحولوا بين عشية وضحاها إلى (مطبِّلجية) لهذه البضاعة وتلك المراكز  التجميلية ومحال الكوزمتكس وعيادات الأسنان والمجمعات السكنية حتى غير الموثوق منها، دون أي اعتبار لتأريخهم الفني ومسيرتهم الجميلة، وبغض النظر عن أعمارهم، وهذا بلا شك ولا نقاش، يأخذ من جرف الرصانة الإعلامية، التي قرأناها وحفظناها وتعلمنا أبجدياتها الكثيرة، إذ لا يمكن أن تتحول سطوة الإعلام وفلسفته الأنيقة، إلى واجهة إعلانية باهتة الصورة، ما يجعل الكثير يتوه ما بين (نون الإعلان وميم الإعلام). ومع أن البون شاسع في ما بينهما، وأقصد الإعلان والإعلام، كون الأول يهدف إلى الإقناع والجنوح أحياناً إلى نوع من الخيال والتحليق في الأحلام الوردية والفنتازيا، فيما يكون الثاني واقعياً حقيقياً يستمدُّ معلوماته من مصادر موثوقة تتعلق بالمجتمع ككل، إلا أن الاستهلاك المادي تفوَّق كثيراً في الآونة الأخيرة على الاحتياج الفكري والدراية، فأصبح نوع السيارة أهم بكثير من الاهتمامات الإنسانية، وصارت كمية مساحيق التجميل وعمليات تغيير (النمونة) تتنافس بنجاح لصالحها أمام نقاوة البشرة والشكل الحقيقي للإنسان، وما يتم صرفه على المراقص والحفلات والأندية والمطاعم التي يعلن عنها، أبدى من تقديم المساعدة المادية لمريض بحاجة إلى مصاريف علاج! وقد تطول الرحلة في بحور هذه المقارنات التي تبدأ ولاتنتهي !

ومن دون أن ندرك جميعاً، فقد يأتي اليوم الذي يتم فيه تبادل الأدوار، إذ يقودنا الإعلان ( بزفّة عرس) إلى حيث يسكن الإعلام، وإلى الأخبار التي يريد أصحابها أن تصل كما يخططون هم لها بصور مختلفة، لا كما هو واقعها، بالتالي فإن هذه العلاقة المتبادلة بينهما تثمر عما يسمى بصناعة الوهم والخيال واللامعقول واللامقبول واللا منطقي، والذي للأسف الشديد صار هو (الترند) الإجباري، الذي فرضه أصحاب السلطات المالية، متحدين كل القيم والأعراف الاجتماعية مقابل ترويجهم لأي بضاعة أو سلعة أو ماركة أو أو . وبعد أن كان الإعلام يُسقِط رؤساء ويغيّر واقعاً ويصحح مساراً، وبعد أن كان الجميع يترقَّب السبق الصحفي، جاء ما يسمى (السبق الإعلاني غير الناضج)، ليتحول الجمهور المستهدف إلى حاضنة تستقبل ما يملى عليها من دون نقاش، مثله مثل لوحة بيضاء يكتب عليها ما لذَّ وطاب من (الخرابيط )!