أحمد حسن*
في خضم اندفاعنا نحو الثورة الصناعية الرابعة، يتبدى مشهدٌ يعيد صياغة علاقة الإنسان بالعالم. إيلون ماسك، رمز العصر التكنولوجي الراهن، يقدم رؤية تتجاوز حدود العلم إلى فضاء فلسفي معقد: هل تسعى التقنية لتحرير الإنسان أم لإعادة تشكيل وجوده وفقاً لمنطقها الخاص؟
إن فلسفة ماسك، المتجسدة في مشاريع مثل Neuralink وTesla Optimus، تعيد إحياء المخاوف التي طرحتها مدرسة فرانكفورت بشأن "عقلانية الأدوات"، حيث تغدو التقنية غاية في ذاتها، منفصلة عن أي مشروع إنساني متجاوز.
تمثل مشاريع ماسك محاولة لتعريف الإنسان بما ليس هو؛ كائن محدود بقدراته البيولوجية، يحتاج إلى امتداد تقني ليواكب العصر. هذه الرؤية، التي تبدو للوهلة الأولى خلاصية، تحمل في طياتها بذور اغتراب جديد. فالإنسان الذي تحدث عنه كارل ماركس في سياق الرأسمالية الصناعية، مغترب عن عمله ونتاجه، يجد نفسه اليوم مغترباً عن ماهيته، إذ يُعاد تعريفه ضمن منظومة تكنولوجية تعتبره عنصراً قابلاً للاستبدال.
هنا يتقاطع هذا الواقع مع تحذيرات ماكس فيبر من أن قفص العقلانية الحديدي لا يقتصر على البيروقراطية، بل يمتد إلى التقنية التي تؤطر وجود الإنسان ضمن أنظمة لا مكان فيها للذات أو القيمة. الروبوت ليس مجرد أداة، بل هو رمزٌ لتحول الإنسان إلى مجرد مورد، كما وصف مارتن هايدغر في نقده للتقنية بأنها "كشفٌ لا-إنساني للعالم".
خيالٌ علميٌّ أم واقعٌ جديد؟
فلسفة ماسك تُذيب الحدود بين الواقع والخيال العلمي. العالم الذي يسعى لبنائه ليس مجرد امتدادٍ للتقنية كما نعرفها، بل انقطاعٌ عنها. الروبوتات التي يروج لها ليست أدوات تحت سيطرة البشر، بل كائنات مستقلة تحمل في طياتها إمكانيات تجاوز الإنسان ذاته. هذه الرؤية تتلاقى مع أطروحات مدرسة شيكاغو، حيث يتم تحليل التقنية كظاهرة اجتماعية – لكنها هنا ليست مجرد انعكاس لحاجات الإنسان، بل منتج مستقل يسعى لإعادة تشكيل هذه الحاجات.
وفقاً لهذا المنظور، يصبح مشروع ماسك امتداداً لـ"أيديولوجيا التقدم" التي تفترض أن كل جديد هو أفضل بطبيعته. لكن كما أشار هربرت ماركوزه، فإن هذا التقدم قد لا يكون سوى وهم، يخفي وراءه هيمنة جديدة، حيث يتحول الإنسان إلى مفعول به، وليس فاعلاً. هنا، يمكننا أن نتساءل: هل الروبوت هو نهاية التاريخ، كما افترض فرانسيس فوكوياما عن الليبرالية، أم بداية لحقبة ما بعد الإنسان؟.
لا يمكن قراءة مشاريع ماسك بمعزل عن السياق السياسي والاقتصادي الذي يحتضنها. إدارة دونالد ترامب، التي سعت لتقليص القيود على الشركات الكبرى، قدمت أنموذجاً لتحالف المال والتقنية، حيث تُهيمن المصالح الاقتصادية على حساب القيم الإنسانية. هنا، تتجسد أطروحة أدورنو وهوركهايمر حول "العقلانية الأداتية"، حيث تصبح التقنية وسيلة لإحكام السيطرة بدلاً من التحرر.
لكن هذه السيطرة ليست مجرد استغلال اقتصادي، بل هيمنة فلسفية تعيد تعريف القيم ذاتها. الروبوت، في هذا السياق، ليس بديلاً عن الإنسان فقط، بل نموذجٌ جديدٌ لما يجب أن يكون عليه الإنسان: كائناً وظيفياً، منضبطاً، خالياً من أي عمق وجودي.
الإنسان بين الحيوانيَّة والماكينة
الفلسفة التي يتبناها ماسك، وإن كانت غير مُعلنة بصراحة، تقودنا إلى مواجهة سؤال جوهري: هل الإنسان مجرد حيوان متقدم، أم كائن يحمل قيمة ذاتية تتجاوز وظائفه؟ إذا استبدلنا الإنسان بالروبوت، فما الذي يبقى من معنى الحرية؟ هانا آرنت، في تحليلها للطبيعة البشرية، تشير إلى أن الإنسان هو الكائن الوحيد القادر على ابتداع عالم جديد. ولكن في عالم ماسك، يبدو أن الإنسان يُستبدل بمنظومات قادرة على الإبداع، لكنها خالية من أي إحساس بالقيمة أو الغاية.
وفقاً لهذه الرؤية، يصبح الإنسان هامشياً، مجرد ظاهرة طبيعية في عالم تحكمه الماكينة. هذا الانزلاق إلى عالم "ما بعد الإنسان" يعيدنا إلى مفهوم نيتشه عن "موت الإله"، حيث لا يكون البديل هو الإنسان الأعلى، بل الروبوت الأعلى، الذي يتفوق على الإنسان في كل شيء، عدا كونه إنساناً.
نحن أمام مفترق طرق. التقنية ليست شراً مطلقاً، لكنها أداة تحتاج إلى تأطير أخلاقي وفلسفي. العودة إلى الأسئلة الكبرى، التي طرحتها مدارس الفكر مثل فرانكفورت وشيكاغو أصبحت ضرورة ملحة. يجب أن نسأل: ما الذي نريده من التقنية؟ وهل يمكن أن تخدم الإنسان دون أن تهيمن عليه؟
كما قال والتر بنيامين: "كل تقدم في التقنية هو تقدم في إمكانية الكارثة". إذا لم نواجه هذه الإمكانية، فإننا نخاطر بتحويل العالم إلى فضاء بارد، حيث تختفي الإنسانية في ظل سيطرة الآلات.
فلسفة ماسك ليست مجرد رؤية مستقبلية، بل تحدٍ وجودي للحضارة. نحن لسنا أمام تطور تقني فقط، بل أمام لحظة إعادة تعريف لما يعنيه أن تكون إنساناً. إذا لم نقف عند حدود التقنية، فإنها ستقفز فوق حدودنا. وكما أشار أدورنو: "الحرية ليست اختيار ما بين الممكنات، بل هي خلق الممكن ذاته". علينا أن نخلق ممكناً جديداً، حيث تبقى التقنية في خدمة الإنسان، وليس العكس.
*باحث وأكاديمي