محمد طهمازي
"إن الجماهير لم تتعطش قط إلى الحقيقة. لطالما كانوا يعرضون عن الدليل الذي ليس على هواهم، مفضلين تأليه الخطأ إذا أغواهم الخطأ. ومن يستطيع أن يزودهم بالأوهام يصبح سيدهم بسهولة؛ ومن يحاول تدمير أوهامهم يكون دائما ضحيتهم".. "غوستاف لوبون".
لا تخالجك أفكار ومشاعر متضاربة وأنت تتأمل أعمال سلام جبار الأخيرة بعيدا عن ازدحام الكتابة والدهشة والإشادة إزاءها، لكن من المؤكد أن تجد نفسك أمام مدى مغر للبحث والتحليل بشكل استثنائي وهادئ ويحتمل الكثير من الدرس في الغرس الذي تراه ينمو ويؤتي أكله بكل اتزان وثقة لكنه لا يتخلى عن ذلك القلق الأزلي الذي يلازم الفنان في مسعاه
الإبداعي.
ليس كل ما تراه هو الحقيقة وليس كل ما تقرأه في شكله النظري هو قراءة واعية للمحتوى والقصد لذا لا تقتنع بحقيقة تراها كل الأعين ويستبيحها أضيق الوعي. فأنت عندما تستعين بالبصيرة ستكون في منآى عن الإبصار الساذج الذي سيكتفي بالقشرة ويشعر بالتخمة بعدها فينام نومة القطا على بيضه تحت السنابل، فيما يكون قطار المعنى قد مر مجلجلا بقوة الفنّ الدافقة. هكذا يعمل سلام جبار اليوم وهكذا تعلم في خضم حياته الفنية المختلطة بفوضى العراق وعمى أقداره.
ثم هوة شاسعة بين البكائين وكتبة قصائد النعي والنواح تحت نخلة المصلوب متغنين بسيلان دمه وشهقات روحه التي تخرج من أعماق وجعه شهقة تلو شهقة دون أن يكلفوا أنفسهم نزع مسامير صلبه أو يبلوا ريقه المتصحر بقطرة ماء، وبين سلام الفنان الذي ينتظر عند باب كهف المصلوب متمعنا في لغة النجوم ومنطلقات الشهب مستنطقا خرائط
قيامته.
تسير منهج سلام روح لا منتمية تحاول قدر ما تستطيع تجنب التكرار والاستنساخ عن الآخرين قديمهم وحديثهم، وهذا ليس بالأمر اليسير، لكنها لا تنطلق من فراغ بل تعزز قواعدها بحشد من الفكر والثقافة كي يبقى النتاج الفني أقرب للروح التجريبية منه إلى المقياس التأثري أو النسق
الأسلوبي.
وبالتالي يحمل العمل الفني بصمة سلام الذاتية واتجاهات ومساقط فلسفته في معماريات أعماله وتقنياته اللونية. وهو هنا يفلت من السائد رغم أنه ولد بين جنبي تجاربه وسرعان ما يدرك أن مقاييسها ومفاهيمها عن الوجود الإنساني جد كلاسيكية قاصرة عما يطمح إليه وعيه وينشده، فيعود أدراجه إلى صحراء التيه، كما يقول كولن ويلسون، ليقيم في صومعة عزلته، ليخلق فلسفته الجديدة ثم يعود ليبشر بنبذ أكاذيب الفنّ وتخريجات الكتبة. إن الطمأنينة في هذا العالم خدعة لا ينجر إليها الفنان لأنها تشكل خطرا على روحه القلقة المتوثبة الباحثة المجربة، إنه ضد الاطمئنان..
لا يرسم سلام جبار الشخوص بعينهم فهم لا يمثلون له أي اهمية واقعية تشخيصية، لكنهم يشكلون لديه عتبات أفكار. يقول الرمزي الانكليزي جورج فريدريك واتس: " أنا أرسم الأفكار وليس الأشياء. لا أرنو لرسم الأعمال التي ترضي العين بقدر ما أطرح أفكار عظيمة من شأنها أن تخاطب المخيلة والقلب وتثير كل ما هو أنبل وأفضل في الإنسان".
فأنت لن تجد تشخيصا واقعيا لشخوص لوحاته إلا حينما توجب الضرورة التشكيلية التعبيرية تحديد هوية شخص محوري يكون الشاحن لمعمارية العمل الفني والمنبع الذي ألهم الفكرة. شخوص سلام يهيمون على وجوههم كأنهم موتى نهضوا من قبورهم بعد نفخ في الصور، وقبورهم في الحقيقة هي أوطانهم التي خرجوا منها متخلين عن هوياتهم وملامحهم وكل ما يميزهم حتى ثيابهم.. تماما كما الموتى يوم يخرجون عراة من عالمهم السفلي يوم القيامة.. وتراهم سكارى وما هم بسكارى.
سلام جبار يعي جيدا أن السير وسط حقل "الصرعات الفنية" الذي يمتد على مساحة العالم من دون التعرض لإصابات بليغة هو منجز بحد ذاته، لذلك اعتمد مبدأ التجريب والتجديد في خطابه الفني ليحافظ قدر ما يستطيع على اتزانه في خط رؤاه الفنية وطرائقه التقنية على حد سواء، فتراه في كل مرحلة من مسيرته - برأيي كمواكب - كان يقدم نفسه تشكيليا وفكريا بشكل مختلف وأكثر نضجا من المرحلة التي تسبقها.
لم يرض سلام جبار لنفسه أن يموت، فنيا، عند مرحلة البدايات كما حصل لفنانين كثر حينما صاروا يكررون أنفسهم في كل لوحة وفي كل معرض.
يقول الروائي الكولومبي غابريال غارسيا ماركيز: "لا يولد البشر مرة واحدة. يوم تلدهم أمهاتهم، فالحياة ترغمهم على أن ينجبوا أنفسهم".. فكيف سيكون الحال معك
كفنان؟