الحب بما يضفيه من معنى على الحياة

ثقافة 2019/06/29
...

عبدالزهرة زكي
إن استطعت
 
ايميلي ديكنسون
 
إن استطعت أن أحول دون انكسار قلب واحد،
فلن أعيش بلا جدوى.
إذا استطعت تخفيف وجع حياةٍ،
أو تهدئة ألمٍ واحد،
أو إرشاد عصفورٍ تائه 
إلى عشّه مرة أخرى،
فلن أعيش بلا جدوى.
 
هذه قصيدة قصيرة، وهي مثال يعبّر عن نمط من شعر القصائد القصيرة ذات الانشغال بمعاني الحكمة الإنسانية. الحكمة تستدعي الكثافة والخلاصات وتتطلب التركيز والمعاني التي تختزل فتوضح، وتوجز فتبلغ. هذه الخصائص هي من متطلبات الشعر نفسه، كلما كان الشعر منشغلاً بقيمة معاني الشعر، وهي من متطلبات القصيدة القصيرة بشكل أخص.
حكمة الشاعرة إيميلي ديكنسون في هذه القصيدة، وهي حكمة تجربتها الشخصية في الحياة والعيش فيها، هي في الحب. عاشت ديكنسون جانباً كبيراً من حياتها ظلت منصرفة فيه إلى رعاية والدتها المريضة، وفي تدبير شؤون منزلها، قبل أن تنصرف حياتها إلى العناية والاهتمام بالنباتات، إذ استغلت أوقات فراغها في دراسة علم النبات فجمعت نباتات عشبية وظلت تحرص على رعايتها فكانت رفيقتها في حياة الظل التي آثرتها. 
في أحيان كثيرة تتشابه حيوات الشعراء مع حيوات الفلاسفة، ويتقارب سلوكهم في أسلوب عيش الحياة، مثلما في أحيان كثيرة يكون الخط الفاصل ما بين الفلسفة والشعر خطاً افتراضياً، قد يُدرَك ولكن لا يُحسّ، وذلك كلما تقاربت الرؤى وأطلقت البصائر من قبل الشاعر أو الفيلسوف في رحاب التأمّل والتفكّر بالقيمة الإنسانية للانشغالين، الشعر والفلسفة، هذه منطقة تماس واشتغال مشترك ما بين المجالين الشعري والفلسفي، وهو اشتغال معين طبعاً وليس كل اشتغالات الشعر ولا الفلسفة..
هذه القصيدة مثال على التعبير، شعراً، عن قدرة الحب على أن يسبغ معنى على الحياة. الفلسفة يمكن أن تذهب بالاتجاه ذاته والاهتمام نفسه إنما بوسيلة تعبير أخرى، سيتميز الشعر عن الفلسفة، والفلسفة عن الشعر، بموجب هذه الوسائل، وقد تتقارب الوسائل في عمل الاثنين معاً؛ الشاعر والفيلسوف، يحصل هذا في بعض التجارب.  
الحياة بموجب هذه القصيدة تنتظر ما يمكن أن يمنحها المعنى والقيمة. وتجد القصيدة هذين المعنى والقيمة من خلال الحب، من خلال قدرة الحب وحده على المواساة، وعلى مدّ يد العون حيثما اقتضى حال ما المعونة والمشاركة في المشاعر، كان والت وايتمان الذي عاش في فترة مقاربة لفترة حياة ديكنسون قد قال: كلما مدَّ أحدٌ ما يده لمساعدة آخر فإنّه يلمس وجه الله. 
تُظهر القصيدة حكماً عن قيمة المشاركة والمؤازرة الإنسانية في إضفاء معنى لعيش الإنسان في الحياة، وقيمة للحياة، وبخلاف هذا فالقصيدة تضمر في تضاعيفها ما لم تقله؛ تفاهة العيش من دون محبة، من دون دافع إنساني للتضحية والعون والمؤازرة.
في هذين الإظهار والإضمار ينحاز التعبير إلى تغليب المبدأ الإنساني، مبدأ الحب، وهذا ما جعل القصيدة تُظهر القيمة الإيجابية فتختفي وتضمر الطبيعة السلبية القائمة على الامتناع عن المؤازرة والتمنع على الحب. 
الشاعرة تعبّر بهذا عن طبيعة عيشها الايجابي الداعم والساند في الحياة للبشر ولشركاء البشر الآخرين في هذه الطبيعة التي تحتضننا جميعاً. هكذا تفيض الروح الإنسانية وتنطلق من الحيلولة دون انكسار قلب والمساعدة في تخفيف وجع حياة حتى الأخذ بجناح طائر ليهتدي إلى عشٍّ مضاع.
نجاح موضوع القصيدة هو في المقاربة ما بين البشري وغير البشري، في تأكيد مسؤولية الإنسان في هذا الكوكب للاعتناء بكل ما في الطبيعة من حياة، مسؤوليته في لجم النزعة الأنانيَّة (الأثرة) التي كان شاعر عربي قديم قد نظّف ذاته وعقله منها بالقول:
 
فَلا هطَلتْ عليَّ ولاَ بأرضي 
سَحَائبُ ليسَ تنتظمُ البلادا
 
كان هذا هو أبو العلاء المعري الذي قدّم تجربة إنسانية استثنائية سواء في نمط عيشه أو طبيعة تفكيره الشعري والفلسفي. ديكنسون التي لم تتزوّج تقارب في جانب من طبيعتها صورةَ الطبيعة التي كان عليها المعري، لقد آثرت العزلة وكانت (الرسائل) هي ما يديم صلتها بأصدقاء كانوا محدّدين.
تكتفي الشاعرة بتلك الحالات الثلاث التي التقطتها وذلك للكناية عن أفق يظل مفتوحاً من احتمالات المشاركة الانسانية، يمكن لشاعر آخر أن يعزّز هذه الحالات التي اهتمت بها الشاعرة فيضيف الكثير من حالات أخرى مما يمكن أن يسموَ بها الإنسان بالحب والتضامن في المشاعر والسلوك. 
سيكون من غير الممكن لشاعر/ة اصطناع هذه الطبيعة الإنسانية الرحبة. الشعر، خصوصا حين يكون معنيّاً بما هو روحي ومعرفي، وبطبيعته الأشدّ عمقاً، هو سيرة روحيّة لمؤلفه.
لم تنشغل إيميلي ديكنسون أساساً بأية جدوى محتملة وغير محتملة للشعر سوى ما يمكن أن يقدمه الشعر من عزاء لمؤلفه ومن مختبر عمل لما يعتمل في أعماق الشاعر. بهذا لم تنشر الشاعرة في حياتها أكثر من عشر قصائد، وبعضها كان قد تسرّب من دون إرادتها، فيما هي خلّفت ما يقرب من 1800 قصيدة توزعت بين أربعين كتاباً عُرفت في ما بعد 
بـ (الكراسات).