ياسين النصير
لفت انتباهي عنوان لأحد الكتب باسم “إنسان الكلام”، لكلود حجاج، من منشورات المنظمة العربية، وسأتوقف عند مفهوم العنوان محليًا، أي ما يخص ثقافتنا العراقية، دون أن أتصفحه قراءةً ومعلوماتٍ احتواها الكتاب. فنحن أمّة لا نقرأ ثقافتنا المحلية بمثل ما نقرأ الثقافة الأجنبية، لشعور ما بالتقصير، بينما نطالب من الثقافة المحلية ومن المثقفين المنتجين أن يكونوا بمصاف المؤلفين والمثقفين في العالم، نعم، ذلك ما يشاع عن أسباب التأخر، من أننا لا نقرأ إلّا العربية، بينما من يقرأ اللغات الأجنبية يمكنه ان يحجز له كرسيًا في صفوفها الابتدائية أملا بأن ينتقل إلى صفوف أخرى فيها.
أقول لفت انتباهي العنوان “إنسان الكلام” ونحن نعرف أن الكلام أوسع تأثيرًا في الحياة من اللغة، الكلام ينتمي لانتاج المجتمع، للمصاهرة الاجتماعية وللعلاقات ولأخطائها اليومية، بينما اللغة بالرغم من أنّها كائن اجتماعي فهي مرتبطة باللسان، وكل الشعوب لها ألسن تنطق بلغاتها، ألسن تنظم أفعالها وصروفها وقواعدها، ولكن كل الشعوب عندما تتكلّم، يكون كلامها بكلّ اللغات، هكذا وصلت إلينا شفاهيات العالم، لأن الكلام منتج يومي يتفاعل مع الحياة ويخرج في كثير من الأحيان على قواعد النظم والقوالب النحوية، وعدَّ سوسير أنّ اللغة هي الاساس بينما اعتبرت البنيوية والشكلانية الروسية الكلام.
من هو إنسان الكلام في ثقافتنا العراقية؟ أقول تحديدًا في الثقافة العراقية، هو ذلك الذي يعيش فيها، وليس الذي يعيش بجوارها، ولم يكتف بنطقها او تدويرها فقط، بالعيش في كلامها كخبرة في اقتصادها، وتداولها كعملة يمكن استثمارها، وتمكن صاحبها من التعامل مع كل ظروف الحياة اليومية متجاوزا إنسان اللغة ومفرداته المدرسية، ولذلك يجد من يتكلّم الفصحى صعوبة في شراء أية مادة من السوق إن تكلم مع البائع الشعبي بها، ليس هذا هو مدار ما اردت توضيحه فقط، فإنسان الكلام ليس من ينطق بالكلام الشعبي ويفهم ما تؤول إليها الحكاية، ويمكن أن يؤلف امثالا، ويتكلّم بها مع الجميع، ويفهم ما يقوله في مدن الشمال، بمثل ما يُفهم به في مدن الجنوب، ويمكن أن تتطور به الذائقة الشعبية، خاصة في الأغاني والحياة اليومية وأعيادها ومهرجاناتها، ولكني أعني ايضا فضلا عن تلك المجالات، من ينتج المعارف والفنون والحياة الترفيهية والجمالية، فأية لغة يجب أن يتكلّم بها الفنان التشكيلي غير اللغة الكلامية التي يُنظم بها قواعد ونظم فنّه؟ هنا، ومن هذه الزاوية، نلمح أن انسان الكلام ليس هو من ينطق بالكلام الشعبي، إنما هو من يخضع الطرائق العلمية والفنية لمفاهيم شعبية، يمكنها أن توصل رسالته لقطاعات واسعة من الناس، إنسان الكلام هو السياسي الذي يفهم جدليّة الحياة الشعبية ليؤلف عنها خطابا مقنعًا يدير به رؤيته لتنفيذ احتياجات الناس. انسان الكلام، هو من يشرح لك النظرية الاقتصادية المعقدة بطريقة علمية مبسطة، تمكّنك من فهم ان الاقتصاد هو عصب الحياة. انسان الكلام، هو من يقول لك في الثقافة الدينية ما يجعلك مطمئنا لحياتك اليومية وليس لما يجب ان تكون عليه بعد الموت، إنسان الكلام هو الذي يجعل المشكلات العالمية التي تضخ معلوماتها المربكة كي تخلخل الأمن والفكر لصالحه بأنّ ما تقوله مؤسسات الإمبريالية وغيرها ليس إلّا تنفيذًا لهيمنتها وسيطرتها.. إنسان الكلام هو إنسان المعرفة، التي تمكّننا من العيش دون أحلام الخرافة بأن ما مكتوب في الجبين تراه العين.