القوافي هي المرايا الصافية

ثقافة 2019/07/02
...

حسين الصدر
- 1 -
اذا كنت تقف أمام المرآة لتتفقّد صورتك على ما هي عليه، فإنّ القوافي هي المرايا التي نرى من خلالها الشعراء في رضاهم وسخطهم، وانقباضهم وانشراحهم، وحبهم وكرههم للأشخاص والأشياء ..
كما أنها المرايا التي تكشف قدراتهم البيانية، وبراعاتهم في التعبير والتصوير، فضلاً عمّا تختزنه ذاكرتهم من أمثال وحِكَم
 ومقولات ...
 
- 2 -
إنّ مجرد الاتيان بكلامٍ موزونٍ مقفى لا يحمل من الشعر إلّا شكله التقليدي، وتضيع معه كل ألوان السحر والابداع..، لا يُدخل صاحبه في منتدى الشعراء .
 
- 3 -
واستعراض الكثير من النماذج الشعرية لاستكشاف ماتنطوي عليه من أدوات القدرة البيانية والفنيّة لا تسعه هذه المقالة الوجيزة، ولهذا فسوف نكتفي ببعض النماذج، ولانختارها إلّا من تراثنا الأدبي
 الأصيل.
 
- 4 -
إنّ سرعة البديهة هي من أهم المؤشرات على الذكاء، والفطنة، والملكة الواعدة، وبهذا يتفوق الشعراء الذين يمتلكون هذه الخاصية على غيرهم من الشعراء، لا لمجرد السبق لغيرهم فقط، بل لما يقتنصونه من المعاني دونما إبطاء أو تلكؤ ،الأمر الذي يكشف عن موهبة فائقة، وذهن وقّاد .
 
- 5 -
وجيء بالحدّاد الشاعر (ت 529هـ) الى الامير السعيد بن ظفر فأخبره بضيق خاتمه عليه، وأنّه ورم بسببه، فقطع الحداد الحلقة وأنشد على البديهة :
قَصَّرَ عَنْ أوصافِكَ العالَمُ
وكَثُر الناثِرُ والناظِمُ
مَنْ يكن البحرُ له راحةً
يضيقُ عن خُنْصِرِهِ الخَاتَمُ
فأكرمه الامير واستحسن منه البيتين .
ورأى الشاعر غزالاً بين يديْ الامير وكان راس الغزال في حِجْرِ الامير فقال على البديهة
عجبتُ لجرأةِ هذا الغزال
وأمرٍ تَخَطّى له واعتمدْ
وأعجبْ به اذ بَدَا جاثِماً
وكيف اطمأن وأنتَ الأسدْ ؟
فزاد الامير والحاضران في الاستحسان .
انّ القفزة من (الغزال) الى (الأسد) أعطت للبيتين نكهة متميزة، مضافا الى أنّه قالهما على البديهة ومن دون إبطاء.
- 6 -
وهذا أسامة بن مرشد (ت 584 هـ) يقول في ضرس له بعد قلعه :
وصاحبٍ لا أَملُّ الدهر صحبتَهُ
يشقى لِنَفْعِي ويسعى سعيَ مجتهدِ
لم ألقه مُذ تصاحبنا فمذ وَقَعَتْ
عيني عليه افترقنا فُرقَة الأَبدِ
أرأيت كيف جعل الضرس صاحباً نافعاً ؟
وحين رآه مقلوعاً من فمه ابتدأت عملية الفراق الصعب ؟
تشعر وأنت تقرأ ما قاله كأنه يتحدث عن عزيز، مفقود .
وهذه هي البراعة
 
- 7 -
ويتخذ المستنجد بالله يوسف بن المقتفي (ت 566) من الشمعة وسيلة لهجاء أحد البخلاء فيقول :
وباخلِ أَشْعَلَ في بيتِه
تكرمةً مِنْهُ لنا شَمْعَه
فما جرت من عينها دمعةٌ
حتى جرتْ مِنْ عَيْنِه دمعه
وهو وصف بالغ الروعة والتأثير ...
 
- 8 -
ويهجو الكلبي (حسان بن نمير ت 567 هـ)
مَنْ حَرَمَهُ من الأعطيات الباذخة
فيقول :
يقولون لِمَ أرخصتَ شِعْركَ في الورى
فقلتُ لهم إذ مات أهلُ المكارمِ
أُجازى على الشِعْر الشعير وانّه
كثيرٌ إذا استخلصتهُ من بهائم