طير منكسر

ثقافة 2019/07/02
...

 علي حداد
الكلمة
الطيور العاشقة .. لا تهاجر أعشاشها    
لم يكتب لها شيئا سوى انه لايستطيع أن يعود اليها في الوقت الحاضر .. وانه يعرف تماما عذاب الانتظار ولوعته وما يسببه لها من آلام وحزن لكن ما باليد حيلة.. انه العشق لامرأة أخرى ...
طوى الرسالة بعناية ووضعها في مظروف أزرق لامع ثم كتب العنوان وحشرها في جيب سترته الخضراء المقلّمة بالاسود.. وشقَّ طريقه نحو مبنى بريد مدينته القديم ...
ابتسمت الموظفة العجوز في وجهه ثم سألته .. وابتسامة حلوة زيّنت وجهها 
- رسالة أخرى؟
*  نعم   
-   حرام عليك أن تدعها هكذا معلّقة 
* أعذريني لا أستطيع 
   وظلت  ابتسامة شاحبة قلقة معلّقة على شفتيه حتى وهو يخرج مسرعاً..
سألتها الموظفة الشقراء باستغراب
- أهي الى زوجته؟
وابتسمت ابتسامتها الحلوة ذاتها وكادت ان تتسع لتكون ضحكة  لكنّها ...
* نعم منذ ان هربت مع عشيقها الشاب النحات وهو يكتب لها يوميا .. واحيانا في اليوم رسالتين أو ثلاثا
صعقت الشقراء وأطلقت آهة طويلة وهي ترى الموظفة  ترمي  بالرسالة في سلّة المهملات 
 
2
عندما كانت تخرج الى مكان ما .. كانت تترك له قصاصة صغيرة تخط عليها بخط نسائي جميل ودقيق 
“ حبيبي خرجت الى السوق مع أختك فضيلة” او “ذهبت الى الصالون مع زينب .. حبيبي سأتأخر ثلاث ساعات”، وحين تعود من مشوارها كانت احيانا تجده وقد ترك لها قصاصة حاول كثيرا ان يخطها بشكل جميل ودقيق “حبيبتي لم اجد شيئا في البراد ..سأتغدى مع صديقي النحات” أو”أختي فضيلة مريضة سأمر بها ومن هناك اعرج على النحات ربما نتعشى سوية”. 
وذات يوم ربيعي مشمس وجد قصاصة صغيرة خطت على عجل وبخط مرتبك وغير دقيق “حبيبي أعذرني أرجوك فأنا حزينة من أجلك لا تنتظرني بعد اليوم أبدا فأنا ونحّاتك الوسيم هاجرنا بعيدا مثل طيرين مهاجرين ... وداعا”
 
- 3 -
في احدى المقابر وحين ماتت أخته فضيلة .. كان يعاود زيارة قبرها وجد امرأة عجوزا تبكي قبرا ..عليه صورة شاب.. لكنها صورة بدت قديمة جدا، فتقدم منها على أطراف أصابعه وسأل العجوز بحيرة؛
- أهو ابنك ؟
- كلا . انظر الى سنة استشهاده .. إنّه خطيبي ...
- خطيبك ؟؟
- نعم ومازال
- أه .. ألم تتزوّجي يا خالة ؟؟؟
- لم يهوَ قلبي غيره  
وحين قرأ التاريخ  صعق .. فقد استشهد العام 1948 في فلسطين..
ابتلعته الحيرة وهو ينظر اليها.. وتاهت الكلمات في فمه أن قصاصة صغيرة يتركها على شاهدة القبر لاتكفي ابدا لاحتواء هذا الانفعال .. طرد زوجته والنحات من رأسه وهو يمد يده ليساعد العجوز على النهوض .. كان يرى إلى عينيها كأنما لم تنشفا من الدموع بعد ... كانتا مثل طائرين... بقيا بلا وطن ... أو هجرة ...