في كلِّ مجتمع ثمّة أشكال من البنى المعرفية تقوم بها مؤسسات مدنية وسياسية تابعة للسلطة، وأخرى حرة تتبع حاجات اساسية في المجتمع ليست من اختصاصات مؤسسات الدولة، وثمة مؤسسات مدنية لا تتبع إلا هوى وتوجهات افراد يمتلكون نوعًا من الكارزمية يمكنهم أن يصنعوا حقلا من التجاذبات مع الآخرين مولدة حركة موضعية تؤدي غرضًا اجتماعيا، نفسيا، ما. فالمجتمع بما أنه ليس اشتراكيا، ولا رأسماليا، الكثير من حلقات في بنيته لم تغطها مؤسسات الدولة، من هنا برزت الحاجة إلى وجود مؤسسات مجتمع مدني شرط أن تكون قياداتها من التكنوقراط، الذي يمتهنون عملهم بدقة التنظيم، حتى وأن تعددت مؤسسات المجتمع المدني وتشابهت، فالبيئة العراقية الواسعة يمكنها استنساخ هذه المنظمات إذا ما كانت بالفعل مهنيّة. لا يعني ثمة وحدة ما تجمع كل المؤسسات، فالمجتمع يُبنى على اختلاف توجهات مؤسساته، وليس على اتفقاتها وتشابهاتها، ومن فعالية الاختلاف يولد ذلك النسيج المجتمعي الذي يتلاءم وسياق التنوع والتعدد.
ماذا نُسمّي مؤسسات المجتمع المدني، وهي مؤسسات حديثة النشوء في مجتمعنا العراقي؟ لا بدَّ من التفكير بأنّ هذه المؤسسات تفتقر إلى تحديد هويتها، بعدما شعرنا أنّها تفتقد لمثل هذا التحديد إلّا ما ندر، فمؤسسات المجتمع المدني هي أسلاك وسيطة بين مؤسسات الدولة وعامة الشعب، أسلاك من النوع الذي ينقل رسائل من المجتمع إلى مؤسسات الدولة، ومن موسسات الدولة إلى المجتمع، هذه الوظيفة الأساسية التي يقوم عليها مفهوم مؤسسات المجتمع المدني، ولكن ثمة مهمات فرعية قد تكون بالاهمية نفسها، عندما تستوطن مفهوم مؤسسة المجتمع المدني تطلعات
سياسية.
في الانثروبولوجيا، ثمة رسول وسيط بين الآلهة والبشر، وهو الإله “هرمس” الذي ينقل رسائل الآلهة إلى البشر، ومن ثم ينقل رسائل البشر إلى الآلهة، هذا الوسيط في حركة دائبة بين السماء والأرض، هو سلك متحرك بين قطبين، والحصيلة هي الحوار الدائر بين الآلهة والبشر، ليس من طرف مستبد برأيه وليس من طرف لايفكر إلا بمصلحته. هذا لايعني أن الإله “هرمس” لا رأي له، أو لا يتاثر بما ينقله بين الاثنين، بل إنه يقوم بمهمة “الترجمة” كما تؤكد البحوث الفلسفية المعاصرة، فلغة الآلهة هي غير لغة البشر، عندئذ يقوم “هرمس” بترجمة رسائل الآلهة للغة البشر، ويترجم رسائل البشر للغة الآلهة، والامانة هنا مطلوبة، وإذا انتقلنا من الآلهة إلى السلطة، ومن الشعب إلى المجتمع المدني، اصبح الإله هرمس هو منظمات المجتمع المدني، التي تتوسط بين الدولة والمجتمع، تنقل رسائل الدولة إلى المجتمع، وتنقل رسائل المجتمع إلى الدولة. بمعنى أن المؤسسة الوسيطة عليها ان تفهم اللغتين: لغة المؤسسات الحكومية، ولغة الشعب اليومية، ومن يعتقد ان اللغتين متشابهتان، بحكم أنّهما يتكلمان اللغة العربية، فهو على وهم كبير، لغة الشعب اليومية هي الكلام بكل ما تعنيه مفردة الكلام من شيوع وتنوع واتساع ولهجات مختلفة، وتعدد الألسن، وما تحمله من تورية واستعارة وكناية وبلاغة شعبية، في حين تكون لغة المؤسسات لغة قواعدية تنظمها قوانين وانظمة وأعراف وتقاليد متوارثة، ودائماً تؤثث لغتها بقوانين تسند أو تغيّر أو تعدّل ما بطل تأثيره من تلك القواعد، واللغتان ليستا بالدرجة نفسها من الخطاب الذي تؤلفه مؤسسات المجتمع المدني، ومؤسسات الدولة، خطاب لغة السلطة شبه ثابت، مسند بوثيقة وعرف وقانون، ويشبه قواعد اللغة العربية، بالضبط والنحو والتصريف، بينما خطاب لغة الشعب مرن ومتغير ويحمل لافتة يومية يمكنها أن تقيس حالات متباعدة بلهجات مختلفة، وبطرق تعبير ليست كلامية، وبصور مستدعاة من حالات سابقة للمشابهة وتأكيد مطاليبها. فلغة الشعب ليس على غير مستوى واحد من التعبير، ولذلك فعلى الأسلاك الوسيطة ان تكون أدواتها مستوعبة للغتين وتحويلاتهما التعبيرية والبلاغية، وبدون هذا الفهم والترجمة للغتين بدرجة الوضوح، لن يكون للأسلاك الوسيطة أي دور في نقل وفك الاشتباكات بين الشعب ومؤسسات الدولة. بل تبقى عاطلة مع وجود حاجة لشحنها
بالمطلوب.
مؤسسات مجتمعنا المدني تفتقر إلى التحديد، تحديد الهوية، وتحديد الخطاب، وحتى لا يلتبس الأمر، نضرب مثلا باتحاد الأدباء، الذي هو ليس مؤسسة مجتمع مدني بالمفهوم الوسيط بين الأدباء والسلطات الثقافية الرسمية، بل هو مؤسسة تجاوزت مهمة ترجمة لغة الادباء المطلبية، ونقل رسائلهم، ليصبح شأنه شأن المؤسسات الثقافية في العالم، أي تتولى شؤون الأدباء، وليست وسيطًا بين طرفين، وهذا يعني أن تاريخ اتحاد الأدباء العريق مكّنه من أن يكون بدرجة مؤسسة للدولة وللمجتمع، شأنه شأن الجامعة، مؤسسة تمول من الدولة ولكن لها خطابها المستقل، بينما مؤسسات المجتمع المدني التي تهتم باكثر من حقل اجتماعي، مهمتها أن تكون الوسيطة بين طرفين لكل منهما خطابه
المستقل.
يمكن تمثيل المؤسسات الثلاث مكانيًا، فمؤسسات الدولة تسكن قلاع السلطة، وهي قلاع مسيجة بالنظام والقانون والأعراف والتراكم العملي والوظيفي، وتمثل الساحة مؤسسات المجتمع المدني بكل تلاوينها وأهدافها ناقلة بلافتات وخطابات شعبية ما يريده الشعب، في حين ثمة مؤسسة ثالثة تقف في العتبة ما بين القلعة والساحة، تلك المؤسسة المتخصصة بنوع معين من الخطابات، لتكون مسؤولة هي عن تنفيذه وتطويره، وسميت في العهد الجديد بالمنظمات المستقلة. وهذه المنظمات لها قوانينها التي تنظم خصوصيتها، وفي الوقت نفسه لها أسلاكها التي تمتد بين الدولة والمجتمع، دون ان تتحول إلى داعية للاثنين بقدر ما تقدم مشروعاتها بطريقة تنويرية تنسجم وحداثة التفكير.
ما الذي يحدث في بنية مجتمعنا؟ لا شكّ أنّنا نجهل الكيفية التي تفكّر بها مؤسسات المجتمع المدني لتأدية أعمالها، فالكثير منها، لم يضبطها قانون يؤسس هويتها، وإن وجد مثل هذا القانون، فالقائمون عليها لايفكرون بخطاب تقني غير مرحلي، ومن هنا تبدأ الإشكالية في تجاهل مؤسسات الدولة لدور مؤسسات المجتمع المدني، وعدم فهم مؤسسات المجتمع المدني لطرائق الخطاب المنتج مع مؤسسات الدولة. في الغرب يجري قبل اجازة أية مؤسسة اختبار للهيئة المؤسسة، ومن ثم تدريب عملي على إدارة شوؤن الخطابات، وقبل كل شيء تحديد دقيق للمجالات التي تختص بها. بهذه الآليّة الممنهجة، تكون الاسلاك أكثر فعالية في نقل الخطابات بين الاثنين، وأي انقطاع او تغيير، فالتيار العابر في الأسلاك سيذهب إلى جهة رابعة، تلك هي الجهة القانونية
لتعطيلها.