كما ربياني صغيراً..

اسرة ومجتمع 2025/01/19
...

غيداء البياتي 




لم يكن مسبوقاً في العراق قبل العام 2003 وحتى بعد أعوام كثيرة مرت لغاية وقت قريب وجود «خادمة» أو مدبرة منزل كينية أو باكستانية أو من جنسيات أخرى تدخل منازلنا وتسكن معنا، وتشارك الأسرة غذاءها، مقابل مبلغ من المال تتقاضاه لقاء خدمة أفراد الأسرة وتنظيف المنزل، كما لم تكن هناك شركات توفر أو تستقدم من بلدان آسيوية أيدي عاملة، لرعاية كبار السن، ولم يكن المسن أو المرأة الكبيرة، والأطفال في الأسرة بحاجة إلى أحد غريب يرعاهم، فكانت رعايتهم من أولويات أفراد الأسرة، فالأولاد والأحفاد يشعرون بسعادة عند مساعدة الأبوين والأجداد، كذلك الأم سعيدة برعاية أطفالها وعلى ما أذكر كان كبير السن يجلس وسط المنزل بهيبة وسعادة رغم ما يمر به من أزمة صحية وصعوبة في السير؛ لأنه على ما يبدو أن الاعتناء به ورعايته ممن تولى رعايتهم طوال سني حياته، لم يقتصرا على توفير الأدوية أو الخدمات الصحية فقط، بل تعزيز التفاعل الاجتماعي الذي يساعد على تقليل مشاعر الوحدة والعزلة بداخله.

الموقف الغريب واللافت للنظر هو أني ذات يوم ليس ببعيد كنت في زيارة لأحد الأقرباء في مستشفى اليرموك وتحديداً بالقسم الخاص، رأيت ما لم أتمن رؤيته، وهو أن رجلاً كبير السن مستلقياً على سرير في الغرفة التي بجانب غرفة مريضنا يتلقى العلاج على يد خادمه الباكستاني الجنسية والذي لم يكن يعرف ماذا يفعل أو يقول، شدني الفضول وروح الصحفي الذي يبحث عن كل شيء غريب، فاقتربت من الرجل الكبير وسألته دون تردد، هل لديك أولاد؟ فأجاب نعم، ثلاثة وبنت واحدة، ثم سألته لماذا لم يكن برفقتك أحد منهم؟ أجابني بعد أن أخذ نفساً عميقاً، كل واحد منهم في شاغل بنفسه وأسرته ببلاد الغربة، فلم أجن من حياتي سوى هذا المعيل الباكستاني وراتبي التقاعدي! ثم سكت واغرورقت عيناه بالدموع فقال «الدنيا سلف ودين..»، زاد الفضول بداخلي فسألته عن قوله هذا؟ وأجابني أدين لوالدي بالكثير؛ لأني لم أقدم له العناية الكافية وموته كان إحدى الخسارات الكبيرة في حياتي واليوم أولادي يفعلون ما فعلت والدائرة تدور».

يتوهم الكثير من الأبناء أن يد الغريب التي استعانوا بها لرعاية الوالدين أو الأطفال قد تنجح، فالأسلوب الناعم والرعاية التي تقدمها الخادمة لكبيرهم أو طفلهم تتخفى خلفهما قسوة قلب وحزن كبير. 

وحريّ بنا أن نستذكر في مثل هذه المواقف الآية الكريمة: «وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيراً».. صدق الله العلي العظيم.