مسيرةٌ صامتة

آراء 2025/02/04
...

 د. أثير ناظم الجاسور 


انتهت الحرب بهدنة لا يعلم حالها إلا من فقد أحبابه وبيته وحياته وكل ما يملك، منذ السابع من أكتوبر من العام الماضي وشعب غزة لم يكن على موعد مع الحياة، كل ما يتعلق بالموت كان رفيقهم ضمن حدث أبهر العالم ليدفع ثمنه شعب لطالما عاش قضيته بكل تفاصيلها لوحده دون سند أو معين حقيقي، عاش هذا الشعب واقع أمة لا تعرف حكوماته سوى المتاجرة بالأرواح وإطالة مُدد الانكسارات في الداخل العربي وفي الخارج من حيث تبعية المستعمر، الذي تصورنا أنه رحل مع بدايات حركات التحرر الزائفة التي خلقت لنا الرموز المتصورة في القصص، لم تكن مخرجات القادة سوى ترحيل الخيبات والأزمات للأجيال، التي وقفت عاجزة عن إيجاد أي مخرج لكل ما تمت صناعته لهم على يد أولئك القادة، ما حدث لشعب فلسطين هو نتاج الفراغ السياسي الذي عاشته الأمة لتعيش ضرورات التكيف مع كل حدث أو أزمة تحدث في الحاضر وتبلور خيباتها للمستقبل.

ما حدث هو بكل وضوح هتك لحياة شعب بأكمله وتجريده من مقومات الحياة هذا غير زراعة الخوف من مستقبل رسمت ملامحه أنظمة سياسية، ساهمت في كل ما جرى جراء تماديها مع كل الجرائم الحاصلة مؤسسة لخطر الفوضى، ومنظومة دينية ساعدت بخطابها التفكيكي- التكفيري على زراعة الفرقة لتؤسس لعوامل التفتيت العربي، المرحلة باتت تتعلق بالسياق الزمني تغطيها المحطات الفضائية والصحف والتحليلات التلفزيونية، التي بالضرورة ستلعب دور في إظهار الواقع ومآسيه دون وضع الحلول لشعب يعاني ضمن فضاء عربي تعمه الفوضى والأحداث والترقُب، بالمقابل غرب وكيان إسرائيلي بقيادة الولايات المتحدة يحاولون رسم خارطة المنطقة ومستقبلها بألوان رمادية، تُعيد الذاكرة للتوقفات التي سُميت في يوم ما بالحروب العربية - الإسرائيلية، مستقبل غربي بكل خوارزمياته ومخططاته وتكنولوجياته المتطورة، وتُعيد الذاكرة للمراحل التي لعب بها العرب دوراً بتضييق القضية (القضية الفلسطينية)، وجعلها أسيرة الخطابات والمؤتمرات والمحافل لتقف عند هذا الحد، لتعيش فلسطين سردية عربية مصطنعة تعارضت وتناقضت مع كل المتخيلات السياسية والاجتماعية والثقافية، اليوم توقف التاريخ بالنسبة لشعب عاش ولا يزال يشعر بالذهول لما يحصل له من كوارث داخلية وخارجية لعبت دور في بلورة ذلك الشعور.

يبدأ التاريخ من يوم العودة تلك الصورة التي جسدت صمود شعب متشبث بحياة هامشية حطمتها الشعارات والوعود والأقسى من ذلك جاءت بعد أن مات اكثر من ستين الف شهيد لا ذنب لهم سوى أنهم يحالون العيش، صورة جسدت مسيرة صامته لحرب أطاحت بما تبقى من حياة رغم بؤسها القاسي والمخزي، كلنا شاهدنا قسوة المشهد وتلك المسيرة العائدة إلى خراب لا يتصوره العقل وكأنه عقاب جماعي على يد آلة قتل دولية ساهمت بتهجير وقتل شعب بأكمله كان يحلم بحياة كريمة، لا تنفع قلوبنا ولا ألسنتنا ولا لغتنا المشتركة ولا تعاطفنا شعباً ذاق الموت وتعايش معه فهو اليوم من يكتب ويرسم ويجسد مصيره.

السؤال هنا هل باتت القضية الفلسطينية مركزية في العقل العربي أم أنها حدث ستغطي عليه أحداث قادمة أشد قساوة ورعباً؟، المسؤولية الأخلاقية التي يتحدث عنها الغرب اليوم في تطبيق سياساتهم اقتصرت على عدد من أسرى الكيان القاتل والحديث عن تهديد يُحيط بالكيان الإسرائيلي كما تحاول رسمه الإدارة الأمريكية، ثنائية الإصرار الغربي على التمادي بالاعتراف بالحق الإسرائيلي والتماهي العربي مع كل ما رسمه الغرب مرعبة لا يتصور وجودها العقل لان النتيجة خسارة الأرض وضياع القضية، تلك المسيرة العائدة للديار لم تكن الأخيرة اذا ما استمر العقل العربي بالتفكير بالطريقة التي اعتدنا عليها في كل مرحلة تمر على هذه الأمة، لم ولن ننسى هذا المشهد لتكراره بالقادم القريب مع طرح أفكار جديدة من قبل القوى الكبرى بإعادة رسم خارطة جديدة للمنطقة باطار جديد يفرض كل معطياته على واقعنا العربي الإنساني تحديداً، ستعمل الولايات المتحدة بالقريب القادم بالتهديد باسم فرض السلام والابتزاز باسم الحرية والتحرر والاستغلال باسم الحماية لتُعلن بداية مرحلة جديدة مراحل المساعدة والتدخل الإنساني، وتبقى خيارات العرب ضيقة غير متوازنة لا تبتعد عن سياق الحفاظ على ما هو موجود إن وجد، لتبقى الشعوب تسير ضمن فقرات وقرارات وسياقات عربية ودولية خارج إطار ما تتمنى وما تعيشه، بالمحصلة كلنا سنسير مسيرة العودة، نبكي فقدان الأحبة والأبنية والأموال لكن بمشاهد وصور مختلفة.