رحيم عزيز رجب
لا شك أن حربا ضروسا استمرت على مدار 15 شهرا بين قوتين غير متكافئتين بكل المقاييس العسكرية والأيديولوجية فإنها سرعان ما تركت آثارا وجروحا عميقة في نفوس أهلها المادية والمعنوية، الذين ما زالوا يعانون الأمرين في ظروف أقل ما يقال عنها هي الأصعب والأعسر.
وإن العيش بتلك الأجواء المرعبة والظروف القاسية، والتي لا تلائم وطبيعة الإنسان، حتى أصبحت وكأنها الهولوكوست فكم من مسجد ودور عبادة هدم.
وكم من مدارس ورياض أطفال دمرت عن بكرة أبيها، وكم من آثار تراثية مسحت مع الأرض. ومبانٍ حكومية ومساكن أنزلت على رؤوس ساكنيها. رضخ الجميع لقوانين إسرائيل وأمريكا والغرب المجحفة فسلمت غزا لجلاديها على حين غفلة لتصول وتجول فيها مرتزقة الصهاينة أمام مرئ ومسمع من العالم جهارا نهارا استباحت فيها كل القيم والمبادئ الإنسانية، التي نصت عليها القوانين المواثيق الدولية واتفاقيات جنيف عام 1949 وبروتوكولاتها والتي تحد من وحشية الحرب في (حماية المدنيين والمسعفين وموظفي الإغاثة وحتى الجنود الجرحى. والمرضى. والمنكوبين وأسرى الحرب)...لم يحرك أحد ساكنا. أطنان من الركام والانقاض يعيش أهل غزة بين ظهرانيها وتحت تلك الركام والانقاض نتيجة للقصف وبالقرب منهم تسمع صرخات استغاثة. وأنفاس لفظت هي الأخيرة. وقلوب توقفت عن النبض. وأحلام صودرت. أسكتتها تلك الكتل الخرسانية المسلحة التي جثمت على الأجساد الخاوية.. لتحاك من تلك القصص المأساوية حكايات نسجت من رائحة الموت الزكام. وعن طيور السلام وقوارب النجاة لترمي بأطواقها للناجين المستغيثين. تبشرهم بإرادتهم وصبرهم وصمودهم وظفرهم على البقاء. ليكون للطبيب العراقي (محمد طاهر) عنوان ورمز وصفحة بيضاء لقصة سيخلدها التاريخ. في هذه المجازر الجماعية التي ترتكب. بعد أن رفض المغادرة مع الفريق الطبي والذي أرسله الصليب الأحمر مع فريق (أطباء بلا حدود) في ظروف حرب طاحنة وقصف لا يرحم ولم يبقَ له من الوقت غير 3 ساعات ليلتحق بطائرته الى (لندن) تاركا خلفه مباهج وملذات الحياة ولهوها، وما يتمتع به من امتيازات كطبيب جراج يعمل بأرقى مشافي دول العالم، إلا أن يكون مع أهله وناسه وتحت القصف الجوي يعيش اللحظة القاسية وظروفهم القاهرة. تقاسم معهم رغيف الخبز في الخيام .
ذاق إحساس الموت معهم. وألم الجراح على وجوههم. تعرض الى الإهانة والاعتقال كباقي الأطباء رغم امتلاكهم الجنسيات الأجنبية، إلا أنها لم تشفع مع كيان غاصب همجي لا يعرف من مبادئ وقوانين الحروب شيئا، فهو لا يفرق بين صغير وكبير. وشجرة وجماد. يطلق النار على كل شيء ساكن ومتحرك.هؤلاء الابطال من الأطباء وجميع الملاكات الطبية هم سلسلة من الابطال الخارقين، ستكتب أسماؤهم بماء الذهب على أبواب أهالي غزة، إنهم صحوة لنا ولأجيالنا. وكيف لطبيب عراقي أن يعيد لطفلة فلسطينية يدها، التي بترت نتيجة للقصف الأعمى وقنابلهم الغبية، لتخلفها تحت ذلك الركام ليوقف اجراءاته الجراحية ويأبى، إلا أن يعيد لها تلك اليد المبتورة، فأمر بإحضار الجزء المبتور وإمكانية إعادتها دون عوق. فالأجواء البادرة عامل مهم للاحتفاظ بحيويتها وديمومتها، ليستأنف العملية وهي الأعقد والأصعب في تاريخ الطب، تحت ظروف قصف همجي مستمر. وانعدام الكهرباء وأجواؤها المعقدة، واستحالة العمل تحت وطأتها. فطوبى لكل من وقف موقفا مشرفا ليكون جبلا وطودا شامخا، لم تهزه رياح الصهاينة الصفراء القادمة. لتنشر عوامل الموت والخراب والدمار والرعب. وطوبى للصحفيين والمسعفين ومن لف لفهم.