المثقف وبؤس الذاتيَّة

ثقافة 2019/07/05
...

د. محمَّد حسين الرفاعي
[I]
كيف يخرج المثقف من المجتمع، وما المُكَوِّنات الفكريَّة لهذا الخروج؟ يقع التساؤل هذا، أولاً وفوق كلّ شيء، ضمن ثنائية على صعيد [الوجود- المجتمعيِّ] الخاصّ بطبقة المثقفين، هي ذي: ثنائية [المعرفة الشائعة، والسائدة، والمتعارف عليها- والمعرفة التي من شأن الـ [ينبغي- أن- يكون]]. 
[II]
ولا تتوقف مفاعيل مثل هذا النمط من الوجود المجتمعيِّ Societal Existence عند الوقوع في طرف من طرفي الثنائية؛ بل تتجاوزهما إلى ضروب الإنوجاد Existing، مأخوذاً ضمن [الفعل- المجتمعي- في- كل- مرّة]، هي تتخلل طرفي الثنائية، من جهة، والعلاقات والروابط بينهما، من جهة أخرى.
[III]
فكيف يتميّز الوجود، وكيف يكون، من حيث هو وجود مجتمعيّ، حينما يقتصر في فعله الوجودي على الوجود في طرف واحد فقط من طرفي هذه الثنائية المنطقية؟ 
إنَّه لا يُختزل ضمن ضروب الوجود الماديّة (حتّى لو توهَّم الماديّون اختزاله). إن الوجود المجتمعيّ يقع ضمن [كليّة- الوجود- في- كل- مرّة] التي من شأن الإنسان بوصفه الكائن الذي لديه إمكانية وجود عقلانيّة Rational Existence.
[IV]
فحينما أوجد في حقل وجودي الأخصّ، ومن ثُمَّ الخاص، ومن بعدُ العام، والأعم (إذا ما فهمنا، جدلاً، مضامين هذي الحقول الأربعة المفهومة من أجل الوجود)، فإنني، قَبْلياً، أكون مجتمعيّاً.
ولا تعني ضروب الوحدة الاختيارية، والعزلة أنني ذاهبٌ إلى ذاك المعنى الذاتيِّ الذي من شأني الأخصّ. كل ذهاب، والحال هذي، إلى طرف من طرفي الثنائية، لهو ذهاب حامل لـ:
-I الطرف الآخر الذي يتوهم المثقف عدم الوقوع فيه،
-II علاقات وروابط طرفي الثنائية فيما بينهما.
وإذا ما فهمنا ضروب النقد- والنقد المضاد الممارَسة من قبل طبقة المثقفين التي تشتمل، دائماً قبليَّاً، على ضروب الإنوجاد التي من شأن [الذات- في- ذاتيتها]، نكون أمام وهم هو الأكثر وطأةً على حقل الفهم اليوم. هو هذا: وهمٌ اسمه الأنا- الذات.
[V]
إنه وهمٌ يغلق باب الفهم الكُلِّي: يُغيِّب ويحجب الكثير الكثير من الموضوعات (موضوعات العالَم، والموضوعات التي من شأن علوم الإنسان والمجتمع) في أن تتبدّى كما هي نفسها أمامنا. 
وهمُ الذات، والذات بوصفها وهماً، والغياب الصريح للضروب المختلفة التي تقوم على أرضية [تجاوز- الذات- لذاتها- من- أجل- الفهم الكلّي]، لهي أشياء تجعل منّا، لا في العراق فحسب، بل في البلدان العربية بعامّة، ومن ثمّ في الفكر العربي بعامّة، فارغين من أيّة قضية مجتمعيّة كليّة: إصلاحية كانت، أو كفاحية، أو نضاليّة. 
[VI]
حينما تحضر الذوات، والأنَوات، يحضر صراع تغيب عنه كل المعايير، والمعادلات الضابطة له؛ الصراعات الذاتية داخل طبقة المثقفين تفتقد لوجود معيار علميّ ضمن علوم المجتمع والإنسان؛ أي في عبارة أكثر صرامةً: علوم الفهم.
الصراع المعرفي من هذا النوع، وأمثاله الكثير الكثير في حقل النقاش بين المثقفين في عالمنا العربي، الذي يفتقد لوحدة المفاهيم، ووحدة المعايير العلمية، وحتّى الفكرية، صراع فوضويّ فارغ من أيَّة مضامين، ومنظورات تفهم، وتسعى لفهم الموضوعات المجتمعيَّة والإنسانيَّة. 
هكذا، تجد المثقف يهرب إلى ضروب وجود [الذات- في- ذاتيتها]، ويتوهّم أنَّه يذهب إلى بناء فهم بالعالَم يرسم معالِم الطريق إلى الـ [ينبغي- أنْ- يكون]؛ ناسياً وراءه جهله بالذي يوجد، وبما هو كائن ويكون، [في- كُلِّ- مَرَّةٍ].