أ.د. عبد الواحد مشعل
المقصود بالدبلوماسية الثقافية، تلك التصورات التي بناها عقل الانسان في تعامله مع محيطه الاجتماعي ضمن مجموعته القبلية وقدرته على تكوين توازن قوى تحفظ كيانه، وأمنه الاجتماعي وبناء علاقاته المختلفة في بيئته المحلية والخارجية وتيسر للإنسان عيشه ونشاطه السياسي والاقتصادي وخصوصياته الدينية والثقافية، في زمن سبق ظهور الدولة، فالإنسان بطبعه اجتماعي وسياسي، كما ذهب إلى ذلك أرسطو، اذ تمكن الإنسان البدائي في بنية نظمه القبلية أن ينسج لنفسه مجموعة من التصورات والأساليب في إدارة تعامله مع الآخر ضمن البيئة البسيطة، التي يعيش فيها مقابل علاقات اجتماعية وسياسية معقده تحتاج إلى فن إدارة، لذا كان لزعيم القبيلة مجموعة من السمات التي تأهله في ادارة شؤون قبيلته، إلى جانب الحكماء الذي يحكمون بين الناس في نزاعاتهم المختلفة على وفق نواميس ابتكارها العقل البشري في تعامله اليومي المحلي والخارجي مع أفراد أو عشائر اخري في نسق من التعاملات المعترف بها من كل الأطراف لذا كانت الدبلوماسية الثقافية تقوم على أساس فهم كل ذلك في سياق ثقافي عام.
ينبغي تعريف الدبلوماسية في سياقها السياسي والثقافي وهو امر ارتبط بماهية الثقافة التي ينشأ عليها الانسان المعاصر في عالم تتشابك به المصالح، وتتعقد فيه طرق التعامل بأهدافه المكشوفة والخفية ووسائلها المختلفة. والعراق من البلدان العريقة بجذوره الحضارية الضاربة في عمق التاريخ، وهو يستمد أصول الدبلوماسية من ذلك الإرث الأصيل، وبهذا فإن المرحلة الحالية تتطلب أن نفتخر بذلك العمق الثقافي، الذي يؤهل مجتمعنا العراقي أن يكون في طليعة المجتمعات الإنسانية في التعامل المرن المتسم بالحكمة مع المشكلات والنزاعات، التي تحصل بين إنسان وآخر وبين مجموعة وأخرى، وحتى بين دولة وأخرى على النطاق الرسمي، لذا فنحن نحتاج إلى دبلوماسية ثقافية لحل تلك المشكلات وتحويل تلك النزاعات إلى سلام بطريقة لا تخرج عن الأطر الحضارية، التي رسم حدودها ونواميسها أجدادنا.
نجد في كثير من المجتمعات تسند ادارة تلك الدبلوماسية إلى مجلس قبلي يتقن اساليبها، بما يصون مكانة الإنسان، ويحقق له العدالة، بما يخدم توطيد السلم الأهلي ويعزز بنية القبلية في بيئتها الاجتماعية، وليس في البيئة الحضرية التي لها خصائصها الثقافية المتباينة، ما يجعل تدخل العرف العشائري بأيدي مقلده يظهر فيها كثير من التعسف تجاه الإنسان الحضري، الذي تشكلت ثقافتها بعيدا كليا أو نسبيا عن ذلك العرف العشائري، ليكون القانون هو الفيصل في الاحتكام الي خصوماته ونزاعات مع الآخرين.
كذلك من أهداف الدبلوماسية الثقافية تطويق الخلافات والنزاعات التي قد تنشأ في المجتمع دون الذهاب إلى العنف، لا سيما إذا كان هناك من يتربص به لتمزيق النسيج المجتمعي، لأسباب اقتصادية أو سياسية، أو اجتماعية أو صراع على مصالح ينشا نتيجة مواقف مختلفة، فيكون للدبلوماسية لثقافية دورها على حل تلك الخلافات والنزاعات في المجتمع الأهلي، سواء داخل العشيرة الواحدة أو مع غيرها طالما اتكأت على منظومة قيمية وطرق ومعايير وأعراف اجتماعية مقدرة من الجميع.
لا شك أن كل ذلك مرتبط بمستوى التصورات في عقول أصحابها التي سيقت على وفق نواميس وسنن وأعراف متبعة منذ الآلاف السنين، لأن ذلك مرتبط بالتكوين التاريخي لنشأة القبلية بعمرها الممتدة بالآلاف من السنين، والمستند على روابط الدم أو ما يعرف بالنسب على العكس ما تقوم عليه الدولة الحديثة من قوانين وضعيه ترافق بتاريخ نشأتها القصير قياسا لعمر القبيلة، الذي قد لا يزيد عن مائة وعشرين عاما على حسب النظرية الخلدونية أو على أساس تكوين الدولة الحديثة، التي تتبدل وتتغير أيديولوجيتها وقوانينها على حسب تحولات العصر وفلسفته السياسية والفكرية والاقتصادية التي سرعان ما تتغير إلى نظم سياسية جديدة، وهذا لا نجده في النظم القبلية في تاريخها الطويل، وهنا ينبغي الإشارة إلى العصر الحديث، وما أبدعه من تكنلوجيا غيرت من البنية الاقتصادية، وما تميزت به من ابتكارات تقنية غير مسبوقة في تاريخ البشرية ابتداءً من الثورة الصناعية في أوربا إلى مرحلة الثورة المعلوماتية الاتصالية، وأخيرا الثورة الصناعية الرابعة، وبما وصلت اليه من تقدم مذهل في الذكاء الاصطناعي، كل ذلك وضع النظم القبلية والمجتمعات التقليدية امام امتحان عسير لما ستحمله اجيالها الجديدة من تغيرات ثقافيه مختلفة عن أصولها قليلا أو كثيرا، إلا أن جذورها القيمية لا تزال لها وظيفتها الفاعلة في مجتمعات العالم الثالث، ومنها مجتمعنا، الذي له القدرة على هندسة علاقاته الاجتماعية بما لا يخرج عن ثوابته الوطنية، التي قامت عليها ثقافته خلال التاريخ بما تتميز به من حكمة ودراية بمنظومة الوطن الحضارية، بصفتها قيمة عليا.